Sunday, April 28, 2019

أدونيس: فخ إعادة تعريف البديهيّات


  


هل سيؤدّي إصدار أيّ كتاب جديد لأدونيس إلى إشعال مزيد من الجدل؟ ليس هذا هو السؤال الذي ينبغي طرحه. بل هو: هل بقي ثمة متسع للمزيد من الجدل عن أدونيس ومعه؟ طوال أكثر من نصف قرن، كان أدونيس (1930)، ولا يزال إلى حد كبير، هو الشاعر والمنظّر الأكثر إثارة للجدل في المشهد الثقافيّ العربيّ. وتتزايد أهميّة هذه المسألة مع صدور طبعة جديدة من كتابه «فاتحة لنهايات القرن: بيانات من أجل ثقافة عربيّة جديدة» (دار «الساقي»). بل، بالأحرى، تتزايد أهميّة طرح السؤال المناسب. والسؤال هنا، كما علّمنا أدونيس بنفسه عبر إشعال النيران في ركام الثقافة العربيّة والإسلاميّة، هل هناك أهميّة أساساً لإعادة طباعة كتاب عن «ثقافة عربيّة جديدة» كانت طبعته الأولى عام 1980؟
إن كان ثمة أهميّة لإصدار مثل هذا الكتاب الذي يعود تاريخ أول بياناته إلى العام 1967، فهذا يعني بالضرورة بأنّ تلك الثقافة «الجديدة» لم تتبيّن ملامحها بعد، حتى بعد 57 عاماً من إصدار بيانها الأول. وهنا المعضلة الحقيقيّة التي كان أدونيس ينبّهنا إليها منذ كتاباته النظريّة الأولى. بل ربما كان هذا التزامن بين البيان الأول الذي يؤرّخ للهزيمة الأكبر في التاريخ العربيّ المعاصر، مع الطبعة الجديدة من الكتاب التي تترافق مع «الانتكاسات» المتلاحقة للانتفاضات العربيّة، هو البداية الفعليّة التي ينبغي أن يبدأ منها أيّ نقد للكتاب، أو لأدونيس بشكل عام.
يمثّل أدونيس اليوم أحد أهم الأسماء الإشكاليّة في «زمن الانتفاضات»؛ إنّه «رمز الثورة المضادّة» عند معظم الجيل الثوريّ الشاب والأسماء الثقافيّة الأبرز، بينما هو «البوصلة» لدى من تبقّى من «عقلانيّي» الانتفاضات. هذه هي الصورة العامة التي يروّجها الجميع تقريباً. ولكن هل الصورة حقيقيّة فعلاً؟ ليس بالضرورة، إذ إنّ هذا «الجيل الثوريّ» لا يزال يحمل الفيروس «السلفيّ» القديم (سواء كانت تلك السلفيّة دينيّة أم علمانيّة). لا تزال ثقافة القطيع هي الثقافة السائدة حتى بعد الانتفاضات، بل لعلها تكرّست بشكل أكبر، بخاصة بعد تحطيم الأصنام السياسيّة القديمة، وعبادة أصنام جديدة أكثر تحجّراً، لا سيما مع ترافقها بثقافة «ارتداد» يمثّلها المثقّفون الذين كانوا يحملون لواء التنوير واليسار والتقدّم بالأمس، ليستبدلوه بلواء «الطائفيّة الثوريّة». أما الطرف الآخر الذي لا يزال على ادّعاءاته السابقة بكونه متمسّكاً بالعقلانيّة، فهو حقيقةً يتسم بموقف شديد الغموض (في أفضل الأحوال) من الاستبداد والعسكريتاريا العربيّة. ولعل هذا التوصيف للمشهد الحاليّ ليس دقيقاً بما يكفي، ولكن هذه الضبابيّة بذاتها هي ما تجعل لكتاب أدونيس اليوم هذه الأهميّة.
قال الراحل ممدوح عدوان مرة إنّ أدونيس يتعامل مع السياسة بروح الشاعر، وهنا تكمن مشكلة أدونيس. ربما كانت هذه العبارة هي الأكثر دقة في توصيف مواقف أدونيس السياسيّة، ولكنها لا تصلح لتوصيف المواقف النظريّة لأدونيس في الثقافة، بخاصة في «فاتحة لنهايات القرن». أدونيس هنا شديد الوضوح في تنظيراته الفكريّة-السياسيّة في معظم بياناته، ولذا لن تصلح «روح الشاعر» هنا ذريعة للنقد أو التبرير. لو افترضنا صحة عبارة أدونيس بأنّ الفنان «إما أن يكون حراً وإما أنه لا يكون فناناً»، فهذا يعني بالضرورة بأنّ أدونيس يرتدّ على أفكاره التنويرية القديمة، ويمكننا تبيّن هذا الأمر في مقالاته في السنتين الأخيرتين خصوصاً، ولكنه هنا سيقع في الفخ ذاته الذي نصبه للآخرين، أي إنّه سينزع عن نفسه صفة الفنان. وهنا تكمن إحدى أكثر مطبّات أدونيس النظريّة، أي، التعميم القاتل. رامبو، مثلاً، كان أحد أنبياء مجلة «شعر»، ولكنّ تاريخه الأخلاقيّ والإنسانيّ لا يؤهّله بحسب عبارة مريده الأكبر، لأن يكون فناناً. ومع ذلك، يعمد أدونيس دوماً إلى رفع ورقة رامبو بوجه كل خصومه من «المتحجّرين» في الثقافة العربيّة طوال نصف قرن. وكذلك، لا تستقيم ذريعة «روح الشاعر» في التمييز الضبابيّ الذي يكرّسه أدونيس بين إسلاميّ وآخر، أو بين ثورة وأخرى.
ولكن، من جهة أخرى، لا يمكن للغارقين في وحول الطائفيّة والتابعين الجدد للظلاميّين أن ينتقدوا أدونيس بسبب ما يظنّونه موقفاً متذبذباً من العلمانيّة أو التحرر أو التنوير. إذ إنّ توصيفه الدقيق للأكثريّة الساحقة من المثقفين العرب بأنّهم «موظّفون بالمعنى الدقيق الخاص لهذه الكلمة» لا يزال صحيحاً حتى بعد نصف قرن. هؤلاء المثقّفون أنفسهم هم اليوم، في زمن الثورة، هم الأكثر ارتداداً. وبعيداً عن السياق السياسيّ (الذي لا يمكننا فعلياً فصله عن السياق النظريّ عند أدونيس)، يتابع أدونيس تشريحه القاسي للمنظومة الفكريّة العربيّة والإسلاميّة حين يؤكّد بأنّ غربة الدين الكبرى «هي أن تصبح الكنيسة للكنيسة والجامع للجامع. هي أن يصبح الدين مؤسسة»، أو حين يشير إلى عجزنا عن تأسيس ثقافة عربيّة حقيقيّة إلا عبر لغتنا الأصليّة، إذ دون ذلك، ستبقى المعرفة «دخيلة، غريبة، وسيبقى العلم وسيلة للتعيّش»، لا أن يكون وسيلة فعليّة لأي نهضة أو ثورة. وفي الوقت ذاته، لا ينسى أدونيس أن يؤكّد دوماً، في جميع بيانات الكتاب، بأنّ الفكر يجب أن يبقى ملازماً للسياسة، بل ومرشداً لها، كيلا تصبح الثقافة «ثقافة استلاب لا ثقافة ثورة».
إذاً، نصف قرن من التشريح الأدونيسيّ العنيف للعقليّة العربيّة والإسلاميّة لم يكن كافياً لبداية تحرر فعليّ لهذه العقليّة، ومن ثم للإنسان العربيّ، ولم تكن في الوقت ذاته أساساً قوياً لأدونيس ذاته كي يبقى على أفكاره التنويريّة القديمة، لا أن يفرّغها من مضمونها السياسيّ ليبقيها تنظيرات نظريّة في الفراغ. كانت غاية كتاب «فاتحة لنهايات القرن» هي التأسيس لثقافة نقديّة عقلانيّة قد تمهّد لظهور الثورة؛ ولكن النتيجة كانت هبّة ثوريّة غير مستندة إلى الوعي. وبدلاً من أن تكون الأجيال الجديدة عقلانيّة، بدت أكثر نكوصاً من الأجيال السابقة، وأكثر تكريساً للأصنام عوضاً عن تحطيمها. لا يمكن للشتائم أو التحجّر أو الظلاميّة أن تبني نهضة؛ ولا يمكن للاستقطاب الحاليّ بين عقليّة الشتّامين وعقليّة المطبّلين أن تبني أرضيّة متينة للنقد العقلانيّ. هذه هي خلاصة الكتاب الأدونيسيّ «فاتحة لنهايات القرن»، التي تؤكّد للجميع بمن فيهم مؤلّفه، بأنّ الضبابيّة في المواقف ستجعل أيّ طبعة جديدة للكتاب بعد نصف قرن آخر مناسبة جديدة للجدل ولإعادة تعريف البديهيّات؛ وهذا الأمر بالذات هو نقيض أفكار التقدم والتنوير والثورة.    

نُشرت في جريدة «الأخبار» اللبنانيّة - 23 أيار/مايو 2014
  


Share:

0 comments:

Post a Comment