Monday, December 23, 2019

محمد شحرور: إصلاح أم تجميل ديني؟






ربما لا يمكن إنكار أنّ ظاهرة محمد شحرور كانت إحدى أهم الزلازل التي أسهمت في تحريك مياه المشاريع الفكريّة الدينيّة خلال العقدين الآخرين. ولعل السبب الأكبر في بروز هذا الزلزال هو أنّ شحرور لم يأت من البوابة الفقهيّة التقليديّة، أي من الأكاديميا الدينيّة أو حتى المنابر الفقهيّة التقليديّة. كانت الرياضيات هي النافذة التي أطل منها شحرور لتقديم تأويل جديد كلياً لأكبر قضية فقهية إشكاليّة، هي علم المواريث؛ لينتقل منها إلى تقديم مشروع إسلامي شديد البعد عن التأويلات الفقهية التراثية والتقليدية. كان هذا المشروع عصياً على التصنيف: إنّه مشروع «هدّام» بحسب منتقديه، ومشروع «متنوّر» بحسب مناصريه، ولكنه، دون أدنى شك، أحد أهم المشاريع الإسلاميّة الإشكالية المعاصرة.
ليس ثمة طرح جديد في أحدث كتب محمد شحرور «الإسلام: الأصل والصورة» (طوى للثقافة والنشر)، بل إن هذا الكتاب يبدو أشبه بتلخيص لأفكار شحرور السابقة. الكتاب مجموعة محاضرات ومقالات مستعادة تتناول مواضيع متشعّبة من فلسفة قصة الخلق والروح، إلى التمييز بين الإسلام والإيمان والرسالات، وانتهاء بالقسم المتعلق بمسألة المرأة في الإسلام في قضيتين مهمتين هما مفهوم «القوامة» و«التعددية الزوجية». تندرج جميع فصول الكتاب تحت عنوان عريض هو الإصلاح الديني، الذي يمكن لنا أن نلخص عبره أفكار شحرور المستعادة.
يؤكد الكاتب بأنّ ما نحتاجه اليوم هو الإصلاح الفكري والثقافي، ومن ضمنه الإصلاح الديني، وهو أحق بالأولوية من الإصلاح السياسي، وبأن غياب الوعي بمفاهيم الحرية والعدالة (وهو يؤكد بأن الإسلام خلا من أي تأكيد على مفهوم الحرية، إلا بما يخص مفهوم «الرق» الأقرب لمعنى العدالة لا الحرية) ووضع الدين في خدمة السياسة هو السبب الأكبر في ظهور الحركات المتطرّفة. كما يؤكد على أنّ أول ما تحتاج إليه الحركات الإسلامية هو إعادة النظر في مرجعياتها لأن الأحكام تتغير بتغيّر الأزمان، وبالتالي ينبغي التأسيس لـ «قواعد فقهية معاصرة».
ولكن، بعيداً عن اليافطة المغرية لهذا العنوان (المغرية للكتّاب «العلمانيّين» المناصرين لأفكار شحرور بشكل خاص)، لا يبدو بأنّ هذا المشروع يبتعد كثيراً عن جوهر الفكر الديني. ليس الدين هو مصدر الإشكاليّة، بل هو التطبيق والتأويل الخاطئان له. هذه هي العبارة التي يمكننا فيها إيجاز جميع الأفكار الدينيّة «الإصلاحيّة»، بما فيها مشروع محمد شحرور. بالطبع، لا يمكن لنا أن ننكر جرأة هذه الأفكار أو عقلانيتها (بخاصة ما يتعلق بقضيّة المرأة في الإسلام) ولكن يبدو بأنّ الفارق الوحيد الذي يميّزها عن الأفكار الأخرى هو أنّ شحرور يستند إلى خلفيّته المعرفية غير الدينية كمصدر قوة، تاركاً معظم منتقديه في الطرف الآخر من المعادلة بوصفهم «رجال دين»، دون أن يعلم بأنّ هذا التصنيف بذاته هو المصدر الأهم لهشاشة جميع هذه المشاريع الدينيّة؛ إذ إن اعتماد الكاتب على التقسيم الحاد بين «رجال الكهنوت» (التقليديّين التراثيين بالضرورة)، و«رجال العلم» (المتنوّرين والعقلانيّين) ليس سوى وسيلة لتقوية أطروحته الأساسية القائمة على ثنائية الأصل والصورة. ولكن، فعلياً، فإنّ أفكار شحرور بذاتها هي «صورة» أخرى لما يظنّ هو بأنه «الأصل». القضية عند شحرور، وعند جميع «الإسلاميين الإصلاحيين» هي أنّ شكلاً جديداً للإسلام سيؤدي بالضرورة إلى إدخاله ضمن آليات العصر الحالي، وبأنّ هذا الشكل هو إصلاحي لا ثوريّ؛ أي إنّ مقدار هذا «الإصلاح» لن يتعدّى التفاصيل أو الأفكار الثانوية للفقه الإسلامي وتشريعاته، ولا يجوز التشكيك بجوهر هذا الفقه أو أفكاره الأساسية.
ليس ثمة فارق بين طروحات من يصفهم شحرور نفسه بكونهم «تراثيين» وبين طروحاته بذاتها، بل هي مجرد صياغة ورتوش مختلفة للفكرة نفسها. إنّ الدين لديهم ليس مجرد مكوّن من مكوّنات الهويّة والحياة لدى سكّان هذه المنطقة التي سكنها الإسلام، بل هو «المكوّن الأساسيّ للثقافة والمحرك الأساسي للسلوك». ولهذا، يشدد شحرور على «استحالة إحداث إصلاحات يتم فيها استبعاد العامل الديني أو تحييده، كما حصل في الغرب، وأن بالإمكان إقناع الناس بأن حاجتهم إلى برلمانات وتعددية حزبية وصحافة أكبر من حاجتهم إلى مجالس للإفتاء». إذاً، لا فارق جوهرياً بين المشاريع الإسلامية «المعتدلة» أو المتطرفة، فالفكرة المحورية واحدة. وإنّ غياب المصطلحات «السلفية» (مثل «حاكمية الله» أو «الإسلام هو الحل») لا يعني عدم وجودها الفعليّ، بل هي موجودة ضمن قالب آخر يبدو أكثر «حداثة» و«معاصرة».
الإسلام هو الحل، ولكن ليس ذلك الإسلام التراثي التقليدي. هذه هي الفكرة الفعليّة لمشروع محمد شحرور، برغم تخفّيها ضمن أقنعة متعددة، بصرف النظر عن مدى جرأة الطروحات المتعلقة بتفاصيل فقهيّة محددة. إذ ما معنى التركيز الدائم على إدراج العام 1923، بوصفه «عام سقوط الخلافة»، إن لم يكن القصد من ذك الإشارة إلى مشروع دينيّ لبناء دولة أخفق أو ضل طريقه أو أخطأ في الوسائل؟ وما معنى التشديد على تفسير أوحد لقضية اختلاف الإصلاح الديني بين الغرب والشرق، إن لم يكن القصد هو الوصول إلى النتيجة القائلة إنّ مجتمعاتنا لا تحتاج فصل الدين عن الدولة (وهي نتيجة يتشارك فيها شحرور مع محمد عابد الجابري وحسن حنفي، وإن اختلفت الصياغة). وأخيراً، ما معنى الإشارة إلى وجود «حدود عليا» و«حدود دنيا» في تفسير القضية الإشكالية للحدود الإسلامية في مسائل قطع اليد والربا، إن لم يكن القصد هو التأكيد على «سماحة» الدين الذي يسمح بتفسيرات متعددة تختلف باختلاف الأزمنة؟ ولا بد من الإشارة، أخيراً، إلى أنّ القضية الأخيرة بالذات بدت بمثابة ارتداد لمحمد شحرور عن أفكاره القديمة، إذ كان في كتبه السابقة أشد صرامة في التأكيد على أن التفسير الحالي لمسائل الحدود الإسلامية خاطئ بالمطلق، بينما أعاد صياغة أفكاره في هذا الكتاب، بحيث سمح بإدراج هذه التفسيرات بوصفها اجتهادات فقهية يمكننا انتقاء الأنسب بينها.

نُشرت في جريدة «الأخبار» 1/8/2014
      


Share:

Tuesday, December 17, 2019

ترنيمة الخلق - الرگڨدا




اللاوجودُ ما كانَ ولا الوجودُ:
لا الفضاءُ كانَ، ولا السّماءُ التي فوقه.
ما الذي خفي؟ وأين؟ وبرعايةِ مَنْ؟
وهل كانت مياهٌ عميقةُ الغور؟

الموتُ ما كانَ ولا الخلودُ؛
لا أمارةَ لليلٍ أو نهار.
بقوّته الكامنة نفخ الأحدُ بلا ريحٍ:
ما كان شيءٌ موجودًا إلّاه.

في البدء كانت الظُّلمةُ مسجّاةً بظُلمةٍ؛
بلا أماراتٍ ظاهرة، كان الكلُّ ماءً.
من العدمِ المكتنفِ ظهرَ
الأحدُ بقوّةِ الحرارةِ كان.

في البدءِ كانت الرّغبةُ في الأحدِ:
كانت البذرةَ الأولى، نتاجَ الفكرِ.
الحكماءُ بحثوا في قلوبهم بحكمةٍ
وأدركوا صلةَ الوجودِ في اللاوجود.

بصيصُهم نشرَ النُّور في الظّلمة:
ولكن هل كانَ الأحدُ أعلى أم أسفل؟
كانتْ قوّةُ الخلقِ، وقوّةُ الخصوبة:
الطّاقة في الأسفل، وفي الأعلى الحافزُ.

من يعرفُ يقينًا؟ ومَنْ سيُصرّح هنا؟
من أين نشأ الخلقُ، ومن أين كان؟
ولدَ الآلهةُ بعد خلقِ العالمِ:
فمَنْ يعلم من أين نشأ؟

لا أحد يعلم من أين الخلقُ نشأ؛
وما إذا كانَ الأحدُ قد خلقه أم لا:
ذاكَ الذي يرقُبُه من عليائه،
هو وحدهُ يعلم ولعلّه هو أيضًا لا يعلم.
*****

* عن الترجمة الإنگليزيّة لـ آرثر أ. مكدونِلْ


Share:

Friday, December 13, 2019

سعود السنعوسي: كيف تضرب كفاً بكف!






ثمة إغراء كبير في الكتابة عن سعود السنعوسي: خمس روايات في تسع سنوات؛ أصغر الفائزين سنًا بجائزة «بوكر العربيّة»؛ أحد أكثر الكتّاب العرب رواجًا؛ تُرجمت رواياته إلى ما يقارب عشرين لغة. تلك هي «الوقائع» التي يتّفق عليها الجميع، فيما يبدأ الاختلاف في كلّ ما عدا هذا. هل يكتب السنعوسي روايات حقًا؟ هل يتوازى حضوره الجماهيريّ مع مستواه الفنيّ؟ هل ثمّة مجال أصلاً للحديث عن «تجربة» كتابيّة لديه؟ والسؤال الأهم: لماذا سعود السنعوسي؟ إجابة السؤال الأخير تُريحنا من تفاصيل كثيرة؛ السنعوسي أبرز مثال عن كتّاب الجوائز: الكتّاب الذين يكتبون ضمن وصفة محددة لا يريدون (ولا يقدرون في الغالب) تجاوزها: روايات ليست أكثر من حواديت تشبه حكايات الجدّات من دون أن تملك سحرها. الحكاية هي القصة التي تضمّ حدّوتة بسيطة تنشغل غالبًا بوجوب إيجاد «مغزى» لها بلا اكتراث لأهميّة الأسلوب أو التنويع أو تقديم ما هو أكثر من المتعة. الحكاية هي الإجابة الأمثل على سؤال «ماذا حدث؟». الحكاية قابلة للتّلخيص في عدة أسطر من دون الإخلال بأيّ جزء من أجزائها. ماذا عن الرواية؟ الرواية في مكان آخر تمامًا؛ الرواية ليست معنيّة بالحدّوتة، أو المغزى، أو المتعة حتّى (هي شرط ليس لازماً بالضرورة)؛ الرواية غير قابلة للتلخيص في أسطر أو مقالة أو كتاب؛ الرواية لا تنشغل بسؤال «ماذا حدث؟» بل بسؤال «لماذا وكيف حدث ما حدث؟». الرواية عالم بأكمله، بينما الحكاية تفصيل بسيط عابر ضمن هذا العالم؛ الرواية تعني بالضّرورة وجود أسلوب وتنويع وبصمة تميّزها عمّا غيرها. لا تحقّق أعمال السنعوسي أيّ شرط من شروط الرواية، ومع ذلك هو من الكتّاب القليلين الذين يتّفق بشأنهم معظم القرّاء والنقّاد. مرةً أخرى، السنعوسي مثال عن حالة مستعصية في المشهد الأدبيّ العربيّ لا تُبشّر بنهاية قريبة.
تنطلق أحدث روايات السنعوسي «ناقةُ صالحة» (الدار العربيّة للعلوم، منشورات ضفاف) من الحدوتة وتنتهي بها، بل إنّها أدقّ مثال من بين أعماله عن هذا النمط الكتابيّ. سأكسب مئتي كلمة أو أكثر لو لخّصتُ الكتاب، كما درجتْ عادة المراجعات الأدبيّة هذه الأيام. ولكن فلنستثمر الكلمات في ما هو أجدى، ويمكن لمن يريد ملخّص الحكاية (أو الحكاية كلّها فعليًا) أن يعود إلى أيّة مراجعة للكتاب في موقع «غودردز» أو أيّ منبر آخر. ولكن سأؤجّل الحديث عن الكتاب قليلًا لأناقش أصداءه لدى الكاتب وجمهوره. يرفض السنعوسي عدَّ عمله «رواية صحراويّة»، ويقول مُحقًا إنّ هذا التصنيف سيعني عدَّ الرواية التي يرد فيها البحر رواية بحريّة. ولكنّ رفضه ليس صحيحًا تمامًا لأنّنا لو استثنينا الصحراء (فضاء حكايته) لن يبقى لدينا حامل للعمل. ولكنّ السنعوسي يدرك بذكاء أنّ إدخال الصحراء في التقييم سيعني بالضرورة مقارنة عمله بأعمال كتّاب آخرين كتبوا عن الصحراء، وستكون المقارنة في غير صالحه حتمًا، سواء كان طرف المقارنة الثاني عبد الرحمن منيف أو إبراهيم الكوني أو بهاء طاهر أو صبري موسى أو عبد الله البصيص، على اختلاف رؤية كلٍّ منهم للصحراء. يتحدث السنعوسي عن «رمزيّة» في العمل وعن «نزع الأسطرة»، وهما مسألتان مهمّتان فعلًا، ولكن أين الرمزيّة التي يقصدها، إن كانت شخصيّات العمل وهواجسها وأفكارها قد انكشفت قبل نهاية النصف الأول من العمل القصير أساسًا؟ ولكنّه نجح في نزع الأسطرة، وليته لم يفعل! إذ لم يتبقّ لدينا إلا حكاية باهتة مكرورة لا يشفع لها مدى حضورها الفولكلوريّ أو مدى التاريخ الجديد الذي حاول السنعوسي تأثيث حدوتته به، أو جمال الاقتباسات من الشاعر دخيل الخليفة التي قدّم بها السنعوسي لفصول حكايته. إنْ كانت هناك رمزيّة فسنجدها في الاقتباسات الشعريّة لا في متن الحكاية. وإنْ كانت هناك جماليّات، فقد ضاعت حينما لوى السنعوسي عنق حكايته، وبقيت الجماليّات في ما لم يكتب. لا أعني هنا تلك الجماليّات التي توحي بها النّصوص ولا تُصرّح بها حين نتحدّث عن تكثيف لا يتقنه كثيرون، لأنّ حكاية السنعوسي لن تخرج بصيغة أفضل مما خرجت به إذ لا يملك كاتبها أدوات التّكثيف أو العمق. بقيت الجماليات في ما لم يكتب لأنّه ببساطة لا يتقن فنّ الكتابة والحذف، فأضاع على نفسه وعلينا فرصة إعادة خلق حكاية فولكلوريّة في قالبٍ جديد. ربّما كانت نيّة الكاتب أو صورة عمله في ذهنه أجمل مما أنتج، ولكن منذ متى نتحدّث عن نيّات في الأدب؟
شخوص مسطّحة، وحكاية باهتة. فلنتّجه إلى آخر ملجأين قد يشفعان لإخفاق الكاتب: اللغة والأسلوب. احتفى كثيرون ببهاء لغة السنعوسي في عمله الجديد، بل وصل الأمر ببعضهم إلى الحديث عن لجوئهم إلى المعجمات ليكتشفوا الكلمات التي قدّمها السنعوسي في عمله. لا أعلم مدى معرفة هؤلاء القرّاء والنقّاد باللغة العربيّة، ولكن لم أُصادف كلمة غريبة أو جديدة أثناء القراءة. ولا أعلم عن أيّ جمال يتحدّثون لأنّ اللغة لا تبتعد عن لغة المواضيع الإنشائيّة المدرسيّة وعن لغة روايات الخمسينيّات والستينيّات التي تتوسّل الشعريّة ولا تكون النتيجة إلا لغةً مزركشةً مضحكة. ولكن ربما كانت محاولة كسر السرد التّقليديّ ستشفع للسنعوسي حين وزّع الحكاية بين عدة أصوات: الراوي العليم، ودخيل، وصالحة. كانت المحاولة ستنجح لو كانت الأصوات مختلفة في تعددّها، ولكنّ لغة الراوي العليم (لسان المؤلّف) وأسلوبه وأفكاره لا تختلف عن لغة دخيل، أو لغة صالحة، ويمكن لنا أن نجرّب حذف الاسم الذي يتصدّر كل فصل لنجد أنّ المفردات لم تتغير، وأنّ المتحدّث واحد. تعدديّة الأصوات تعني بالضرورة وجود بصمةٍ تُميّز كلّ صوت عن الآخر، وهذا ما لم نجده هنا. أما المحاولة الأخيرة في إبقاء صفحةٍ بيضاء لفصل «فالح»، فهي محاولة تذاكٍ غير موفّقة، وكذا الأمر في «الملحق» الأخير الذي أراد منه السنعوسي أن يعزّز فكرة الإيهام، ولكنّ المحاولة أخفقت بجدارة إلا لدى القارئ الذي لم يقرأ إلا روايات السنعوسي ربما.
لا محكّ للعمل الفنيّ إلا الزمن. ولذا سيبقى سحر الحكاية الفولكلوريّة على بساطتها موجودًا حين يتلاشى أيّ أثر لحكاية السنعوسي. ولكنّ الذهنيّة المهيمنة اليوم لدى محكّمي الجوائز منشغلةٌ بما هو زائل؛ ويتعاظم الأمر شيئًا فشيئًا حين بات الناشرون يحدّدون ويحرّرون أعمال الكتّاب وفقًا لمزاج الجوائز. من حقّ كلّ شخص أن يكتب وأن ينشر وأن يُروَّج له. ستروج الحكاية وتنزوي الروايات في هامشٍ لا يعترف به النقّاد والمحكّمون. ولكن من قال إنّ الهامش ليس المكان الأجمل حين يكون المتن طافحًا بالرداءة؟

Share:

Friday, December 6, 2019

عبد الله البصيّص: واو وهم، دال دخان






عام 2016، مُنعتْ رواية «طعم الذئب» في الكويت، ومن ثمّ نالت جائزة أفضل كتاب عربيّ في معرض الشارقة للكتاب عام 2017، فراجَتْ الرواية وراجَ اسم كاتبها الروائيّ عبد الله البصيّص. أرجأتُ قراءتها فترةً طويلة كي أقرأها بعد أن يخفت الضّجيج المحيط بها. كانت لديّ تحفّظات عديدة على النّصف الثاني من الرواية، ولكنّ النصف الأول منها كان مدهشاً ويومئ بقوّة إلى روائيّ يتقن لعبة الكتابة بدرجة كبيرة، وإلى أنّه أفضل أبناء جيله من الكتّاب الكويتيّين؛ فهو روائيّ بصرف النّظر عن التحفّظات أو الملاحظات لدى قرّائه، بينما استقرّ مجايلوه في كوكب الحكاية بحيث تستحيل المقارنة بينه وبينهم. بات اكتشاف روائيٍّ جيّدٍ في المشهد الأدبيّ العربيّ فرصةً نادرةً، لذا عزمتُ على أمرين: أن أقرأ روايته الأولى «ذكريات ضالّة» (2014)، وأن أقرأ أيّ عمل قادم له. لم أنفّذ الأمر الأول، ولكن ترقّبتُ صدور روايته الثالثة «قاف قاتل، سين سعيد» (دار روايات). وكان الرّهان في محلّه، إذ تجاوز البصيص عثرات كثيرة وقعتْ فيها روايته السابقة «طعم الذئب»، ليقدّم لنا روايةً فاتنةً مكتوبة ببراعة، كرَّس فيها لنفسه مكانةً بين روائيّي العقد الأخير، في الكويت وفي العالم العربيّ، يصعب إزاحته منها في المدى المنظور على الأقل.
يبدأ زمن الرواية بالعام 2014 ثمّ يدخل في متاهة لذيذة تعود بنا إلى عام 2008 ومنها إلى عام 1993 وقبله عام 1991، ومن ثمّ رجوعاً إلى عام 2014 في رواية شبه دائريّة ينتهي فصلها الأخير باستعادةٍ لفصلها الأول. أتحدّث عن «فصول» مجازياً لأنّ البصيّص لم يكتف بكسر الزمن، بل عمد إلى تقسيم السرد كما تُقسَّم الذاكرة أحياناً في فلاشات سريعة متلاحقة، وأحياناً أخرى تبعاً للتّسجيلات التّسعة والثلاثين التي خلخلت الزمن وبدّلت الشخصيّات الرئيسة في الرواية. تبدو الرواية أحياناً وكأنّها روايتان أو ثلاثة ربما: رواية تبدأ بالمحقّق ماجد وتنتهي به، رواية تبدأ بموت فهد وولادة تسجيلاته وتنتهي بانفتاحٍ على أزمنة عديدة ماضياً وحاضراً، ورواية متشظّية بطلها العم عادل الذي يتسلّل إلى الروايتين المتداخلتين. يدفعنا البصيّص أحياناً إلى زمن السياسة والحرب حين نلمس وطأة سنوات غزو الكويت وتحريرها، ثم نكتشف أنّها محض لعبة سرديّة بارعة لأنّه يريد منّا اكتشاف سنوات التّسعينيّات وبداية مرحلة المراهقة بكلّ إغواءاتها وطيشها ووعيها، ثم نكتشف مرةً أخرى أنّها لعبة سرديّة أخرى تأخذنا إلى معنى الزمن في ذاته ومنها إلى لعبة أخرى نحاول فيها فكّ تشفير الأشياء أكانت كلمات أم صوراً أم تسجيلات في تتابعات زمنيّة مرتبطة بالتكنولوجيا وآثارها، ومنها إلى لعبة تشويقيّة ندخل فيها إلى جريمة قتل كاد الزمن يمحو آثارها إلى أن نفض عنها زمنٌ آخر غبار الزمن الذي قبله. واللافت في هذه التحوّلات كلّها أنّ عالم البصيّص الروائيّ لا يعترف بالشخوص العابرة، إذ لا بدّ لكلّ شخصيّة من أدوار (لا دور واحد) تلعبها في كلّ تحوّل من تحوّلات الرواية، بحيث تبدو مثل قطع «پازل» صغيرة تضمّ صورتها الخاصة، ولكن مع اجتماع القطع والصور سنكتشف الصورة الكبرى التي لن تكتمل إلا باجتماع قطعها كلّها كبيرة وصغيرة.
ربما كانت رواية «قاف قاتل، سين سعيد» معنيّة بتحطيم الأوهام، أو بتعريفها أولاً بغية فهمها وتحطيمها. وهذا لا يقتصر على أوهام القارئ في هذه المتاهة السرديّة بل على الشخوص أنفسهم. يظنّ كلٌّ من عادل وفهد أنّهما قد وصلا إلى «الحل» الذي هو حل لغز حياتهما، ولكن بوسيلتين متعارضتين: عادل بالكلمات وفهد بالصور. ولا يقتصر هذا التّعارض على الوسائل؛ فالوسائل ليست إلا أدوات عصر كلٍّ منهما. لا يثق فهد بالكلمات كثيراً بل يثق بما رأته عيناه وبما حاول ذهنه تفسير تلك الرؤى، بينما لا يثق عادل إلا بالكلمات لا لكونها محلّ ثقة بقدر ما هي الوسيلة الوحيدة لنسف ما رآه ويحاول نسيانه. ولعلّ أكبر ضحيّة للأوهام هنا (إلى جانب القارئ) هو الراوي ماجد الذي يظنّ أنّه يمتلك مفاتيح فهم حياته وحيوات غيره ولكنّ اجتماع الكلمات والصور بدَّد كلَّ ما ظنَّ أنّه فهمه. بات العالم محض دخان. ولعلّ أكبر وهمٍ تحطَّم هو ظنُّ ماجد بأنّه يشبه عمّه بينما هما مختلفان بدرجة كبيرة: ماجد مهووس بإصلاح الأعطاب وبإيجاد معانٍ للأشياء عبر الكتابة، بينما عادل لا يكترث لمعنى الأشياء بل يهرب منها إلى الكتابة كي يخلق عالماً يرتاح فيه أكثر بعد أن سحقه العالم الواقعيّ؛ ماجد يعيش الحكاية، بينما عادل يخلقها. وهذا هو الفارق الذي تقوم عليه الرواية، وإنْ كان إصرار البصيّص على استخدام الفصحى حتّى في الحوارات قد طمس الفوارق بين مفردات الشّخوص المختلفين بالضّرورة، ماجد وعادل على الأخص، وماجد وفهد بدرجةٍ أقل، وشلّة المراهقة التي يتوه القارئ أحيانًا بين أفرادها.
لا تكتفي الرواية بتقديم عوالم زمنيّة متباينة، بل تقدّم لنا أيضاً عوالم طقس وعوالم مكان تُسهم بدورها في اكتمال الوهم وتبديده. شهر أغسطس يحكم عالم الحاضر بقوّة: عالم شمسٍ تبدّد أيّة فسحةٍ للهرب، عالم مواجهة مع ذوبان الأشياء وانهيارها وسرابها؛ الشّتاء والأمطار تحكمان عالم الماضي بدرجةٍ كبيرة: عالم تكوُّن الأشياء، وانغسالها، عالم حلم ينتظر شمساً تُحرقه لتعود قبضةُ السّراب. وكذلك تتأرجح الرواية بين الكويت وأيّ مكانٍ آخر عداها. تبدو الأماكن الأخرى أجمل دوماً، ولعلّها ملجأ أو هروب، وكأنّها عالمٌ آخر لا يشبه الكويت في شيء، عالم راحةٍ على الدوام، أكان مكاناً تقرؤه الشّخوص أو تسافر إليه أو تتخيّل أنّها فيه أو تتمنّى لو كانت فيه أو عادت إليه. يقدّم لنا عبد الله البصيّص في روايته «قاف قاتل، سين سعيد» عالماً قاسياً خانقاً يتذبذب بين خيارات لا يكون السؤال الأهم فيها: «أيُّ خيار أفضل؟» بل «أيّ خيار أقل وطأة؟»؛ عالماً تتبدّد فيه معاني الأشياء التي كنّا نظنّ أنّنا نفهمها؛ عالماً لا يعتمد على رؤانا وحدها بل على رؤى غيرنا، وعلى رؤى أزمنةٍ متداخلةٍ قد تُسهم في نفض أوهامنا.     

Share: