Friday, July 24, 2020

إريش ماريا ريمارك: عن البشر وبيادق أخرى






لم يكن المعلّم الألمانيّ الشاب إريش ماريا ريمارك يتوقّع النجاح الساحق الذي نالته روايته «لا جديد في الغرب» (1929). وربّما لم يدرك أسباب ذلك النجاح حتّى بعد أن هدأت أصداء ذلك الانتشار. وعلى الأغلب أنّه لم يكن ليتخيَّل صمودها قرابة قرن كامل من القراءة وإعادة القراءة والترجمة وإعادة الترجمة. غير أنّنا اليوم قادرون أكثر على فهم تلك الرواية وفهم كاتبها وفهم أسباب نجاحها، بل قادرون على ترسيخ مكانتها أكثر عبر إعادة قراءتها مرات ومرات. سنُسطّح الرواية ونختزلها اختزالًا مُجحفًا لو قلنا إنّها رواية عن الحرب العالميّة الأولى، أو عن الحرب، أيّة حرب. الرواية تهجو النّفاق البشريّ، بل البشر كلّهم، ألمانًا وغير ألمان، من شارك في الحرب ومن لم يشارك. وبذا فهي كانت وستبقى رواية كلاسيكيّة لن تُنسى إلا بنسيان فعل القراءة في ذاته، كأيّ عمل كلاسيكيّ راسخ آخر. أسباب انتشار الرواية كثيرة ومتشابكة ومتناقضة أحيانًا: إنّها رواية كتبها جنديّ ذاق ويلات الحرب وكتب عنها؛ رواية نضجت في ذهن كاتبها ولم يدلقها مباشرةً كشتيمة، بل انتظر إلى أن اختمرت وقست أكثر؛ رواية عن الحرب العالميّة الأولى ولكنّها نُشرت في سنوات السلام التي بدت فيها الحرب محض كابوس بعيد ظنَّ الناس أنّه في الماضي فقط؛ رواية نبشت ذلك الكابوس لتنبّه الناس إلى أنّ الحرب قادمة لا محالة وأنّ الإنسان أحمق إلى درجة تكرار أخطائه ذاتها دومًا، ومنافق إلى درجة إلقاء الكذبات الممجوجة ذاتها قبل كل حرب وأثناءها وبعدها.
قراءة أخرى لريمارك؟ ترجمة أخرى لريمارك؟ هذا سؤالان متهافتان لأنّ الاستنكار الذي يغلّفهما مردودٌ على صاحبهما. نعم، لا بدّ من قراءات ومن ترجمات لهذه الرواية. ومن هنا تنبع أهميّة الترجمة الجديدة لرواية ريمارك التي صدرت أخيرًا عن دار «أثر» بترجمة ليندا حسين. إذ نقرؤها مترجمةً بترجمة دقيقة صافية عن الأصل الألمانيّ مباشرة، وبالعنوان الأدق «لا جديد على الجبهة الغربيّة». ليس هذا مجال الحديث عن الفارق بين العنوانين: «كل شيء هادئ على الجبهة الغربيّة» (كما ساد في الترجمات السابقة عن لغات وسيطة) و«لا جديد على الجبهة الغربيّة». إذ سنضيع وقتًا وجهدًا كبيرين في محاولة إقناع قراء كثيرين ببدهيّات: أهميّة الترجمة عن اللغة الأصل، والحفاظ على العنوان الأصل. المهم هنا هو أنّها ترجمة صدرت في وقتها إذ نعيش أيامًا فوضويّة تجمع طبول الحرب وهدنة السلام، وتُنذر بطبول أعلى لحروب قادمة لا محالة. مئة عام لا تكفي كي يتخلّى البشر عن حماقتهم ونفاقهم، إذ لعلنا لا نعيش إلا بالحرب ومن أجلها، أيًا تكن النتائج. وهذا ما كان بطل الرواية باول بويمر غافلًا عنه في بداية الأحداث، إذ كان في بداية الأحداث غافلًا عن الخطين المتوازيين اللذين يرسمان حياة الحرب: الأنا والنّحن. نتعرف إلى باول منذ البداية بوصفه بيدقًا من بين عشرات آلاف البيادق في الحرب، ولكنّه لا يدرك أنّه بيدق لأنّه ما يزال متذبذبًا بين الحياة المدنيّة التي لم يكد يبدأها بعد والحياة العسكريّة التي ستصبح حياته الوحيدة. ولذا يتناسى البيدق زملاءه البيادق الأخرى في السريّة التي كان تعدادها 150 جنديًا قُبيل بداية الرواية، لندرك بعد صفحات قليلة أنّ العدد تضاءل إلى 80، ليتضاءل أكثر إلى 32 مع منتصف الرواية، قبل أن يتلاشوا جميعهم وكأنّهم ما كانوا.
ربما كان باول هو ريمارك نفسه. هذا ليس مهمًا لنا، بل يهمّنا براعة تشريح ريمارك للحرب وللبيادق الألمانيّة وغير الألمانيّة التي لا تولد ولا تعيش إلا لتكون وقودًا للحرب التي لا تنتهي إلا كي تعود. فرحة باول ورفاقه بالطعام الوافر في بداية الرواية حين أصبح لكل منهم حصتان بدلًا من حصة واحدة هي فرحة الجسد الذي لم يذق إلا الحرمان. النجاة هي الهدف الأول والأخير، والجنديّ خُلق كي يموت. تلك طبيعة الأشياء كما كان باول يراها. ولكن مع اكتشافه شيئًا فشيئًا أنّ البيادق تكاد تتلاشى يتنامى الشعور الآخر الذي لا يدركه إلا مَنْ عايش تجربة النّجاة الجماعيّة. أن تنجو مع رفاقك كي تكون لنجاتك معنى، لا أن تنجو بمفردك. باول نفسه الذي فرح بحصّة الأكل المضاعفة كاد يتقيّأ بسبب غفلة المدنيّين وأنانيّتهم حين رحل ليقضي إجازته في بلدته. مدير مدرسته يريد أراضٍ كاملة كي يرضى، وليس له أن يدرك معنى البقاء على قيد الحياة لأنّه لا يعرف عن الجبهة شيئًا. غربة باول في إجازته هي نقطة التحوّل الكبرى في حياته: بدأ يدرك حقّ الإدراك أنّ حياته باتت هناك، في الجبهة، حيث الأشلاء والرصاص والنار والغاز؛ حيث لا تكون الأحلام الغبيّة بأراضٍ تُتقطَع من هذه الدولة أو تلك، بل أن يُختزَل الوجود كلّه في جسدك وجسد رفاقك، بل وفي أجساد البيادق كلّها على اختلاف جنسيّاتهم وانتماءاتهم. ليس الأعداء في الحرب بل في المدن والقصور المتخمة بالحياة. وكلُّ لحظة نجاة في الحرب باتت تعني سرقة هذه اللحظة من عدوّك الذي كان، ورفيقك في الموت الآن.
أن تسرق وجودك. هذا هو الهدف الوحيد الذي بات عشرات آلاف الشبّان يعيشونه في الحرب، وهم يدركون أنّ مصيرهم محكوم بالصدفة. ستعيش بالصدفة، وتموت بالصدفة، ويُبتَر جسدك بالصدفة. ليس منهم من سوف «يُعمَّر فيهرم»، إذ إنّهم هرموا وانتهى الأمر. باتوا على هامش الحياة التي لا تعترف بالبيادق. هم محض أرقام لا أكثر. الجنديّ رقم كذا، سيصبح السرير رقم كذا في المشفى، وربما القتيل رقم كذا في أحد المدافن الجماعيّة. مع اقترابنا من الصفحات الأخيرة سنبدأ اكتشاف معنى البرقيّة الرسميّة التي ستُلخّص حياة باول بويمر بأكملها. مات وحيدًا بعد موت رفاقه كلّهم. الصدّفة لعبت دورها مرةً أخرى لتجعله يموت في يوم هادئ لن يُكدّر الجنرالات والملوك، يوم هادئ على الجبهة ليس فيه إلا موت بيدق لن يهمّ أحدًا. لا جديد في الغرب، لا جديد في الشرق، لا جديد في الشمال، لا جديد في الجنوب. قد يموت عشرات، أو مئات، أو آلاف، أو ملايين. لا يهم. ما يزال لدينا سبعة مليارات من البشر محكومون بالصدفة ليس إلا. نجت رواية ريمارك بعد أن أحرقها هتلر من بين ما أُحرق من كتب تندّد بالحرب. لعلّها صدفة أخرى. ولكن هناك أعمال وكلمات كثيرة أحرقتها صدف أخرى لأنّها «توهن نفسيّة الأمة»، لو استعرنا العبارة الحمقاء التي تردّدها الأنظمة على اختلافها. يرى ريمارك أنّ روايته ليست إلا «محاولة فقط لحكاية ما حدث لجيلٍ دمّرته الحرب حتّى وإن كان قد نجا من نيرانها». ولكن هل نجوا حقًا؟ هل نجونا؟ هل سننجو؟ 

   

Share:

Friday, July 10, 2020

بنجامن كارتر هِت: هتلر وموت الديمقراطيّة





ستبقى أيّة محاولة لكتابة تاريخ ألمانيا بين الحربين مشيًا في حقل ألغام. فمن جهة يُفترَض بالمؤرّخ الموضوعيّة، ومن جهة أخرى لا بدّ لهذه الموضوعيّة من نتيجة محسومة سلفًا: ألمانيا المتّهم الأول والأخير في إشعال فتيل الحربين، والمتّهم الأوحد في صعود أدولف هتلر إلى السلطة. سينتأ السؤال المحرج الهامس: أيّة موضوعيّة تلك طالما أنّ النتائج مُحدَّدة مسبقًا؟ سيردّ المؤرّخون: اعتمدنا على وثائق وشهادات. هذا صحيح قطعًا، ولكنّ الوثيقة والشّهادة خاضعتان لتأويلات عديدة بالضّرورة. وفي ظل غياب تأويل الطرف الخاسر للأحداث ليس أمامنا إلا القراءة الحذرة لأيّ كتاب أو وثيقة. وبسبب استحالة تسليط أيّ ضوء ولو شحيح على تأويل الطرف الآخر، تفادى المؤرّخون محيطات دماء الحربين، وهربوا إلى الفترة التي سبقت وصول هتلر إلى الحُكم، بهدف دراسة الأسباب التي مكّنته الفوز بديمقراطيّة لا تشوبها شائبة. هل يمكن للنّاخبين انتخاب شخص سيئ وعنصريّ وشرير ودمويّ ودكتاتوريّ ... إلخ؟ الإجابة بكل بساطة: نعم. ومن هنا تنبع أهميّة كتاب المؤرّخ الأميركيّ بنجامن كارتر هِت «موت الديمقراطيّة: صعود هتلر إلى السلطة وسقوط جمهوريّة فايمار» الذي صدر أخيرًا عن دار «فواصل» بترجمة عدي جوني. يقوم الكتاب على فكرة بسيطة: أيامنا هذه تشبه ثلاثينيّات القرن العشرين، ولذا لا بدّ من دراسة تلك السنوات البعيدة كي نحاول فهم أيامنا التي تشهد صعودًا جديدًا لليمين المتطرّف وللنّزعات الشوفينيّة في ظل هدير موجات هائلة من اللاجئين إلى أوروبا.
لا يتناول الكتاب جمهوريّة فايمار (رمز الديمقراطيّة الأسمى في تاريخ ألمانيا وأوروبا) بل أواخر أيامها؛ وبالتحديد بين حدثين كبيرين: حريق الرايشستاغ [البرلمان] (27 شباط (فبراير) 1933) و«ليلة السكاكين الطويلة» (30 حزيران (يونيو) 1934). يؤرّخ هذان الحدثان إلى بداية فترة حُكم هتلر، مستشارًا لألمانيا أولًا في كانون الثاني (يناير) 1933، وصولًا إلى إحكام قبضته على منصبي المستشار والرئيس معًا في آب (أغسطس) 1934، حيث بدأ رسميًا حُكم الرايش الثالث الذي وضع آخر مسمار في نعش جمهوريّة فايمار. ثمة استعادات موجزة للحرب العالميّة الأولى وبداية تشكُّل أفكار هتلر، و أضواء خاطفة على «عمليّة فالكِري»: المحاولة الفاشلة لاغتيال هتلر عام 1944. مع تفاصيل متشعّبة كهذه كان لا بدّ من الانتقاء، لذا بدا الكتاب بفصوله الثمانية وكأنّه ثمانية مشاهد في فيلم تسجيليّ يلتقط تفاصيل متناثرة ترسم بمجموعها صورةً شاملةً بعض الشيء لألمانيا فايمار وما بعدها. مشكلة هذه الطريقة هي المجازفة بانفراط التّناغم أحيانًا بين تلك التفاصيل بحيث لا يفهم القارئ غير المطّلع نقاطًا كثيرةً في دوّامة الأسماء والتواريخ المدوّخة. ولذا تبدّى التخبّط أحيانًا بين مقدّمات الفصول التي تستلهم السرد الروائيّ في لقطات شفيفة منتقاة ببراعة لشخصيّات وأحداث، وبين الفصول نفسها التي نحت إلى أسلوب جاف أحيانًا غير بعيد من الأسلوب الأكاديميّ الذي يسم معظم الكتب التاريخيّة، على الأخص بسبب خلوّ متن الكتاب من الحواشي التي فضَّل الكاتب إزاحتها إلى ملحق في نهاية الكتاب بحيث اختلطت أفكاره مع أفكار مَرَاجعه التي استند إليها.
تلك ملاحظات نافلة لا تقلّل من أهميّة الكتاب الذي يبرع مؤلّفه في تدوين ملاحظات ثاقبة عن الحرب العالميّة الأولى ومشاعر الألمان الذين أحسّوا بالغبن بعد هزيمتهم التي تضاعفت بسبب معاهدة فرساي التي كانت سببًا جوهريًا من أسباب نقمة ألمانيا على أوروبا وصعود التيّارات المحافظة والقوميّة ومنها «حزب عمّال ألمانيا القوميّ الاشتراكيّ» الذي اشتُهر لاحقًا باسم «الحزب النازيّ». ليست تلك القوميّة المتطرّفة وليدة أفكار هتلر وحده، بل تجسُّدٌ للنقمة الألمانية المتفاقمة طوال 15 عامًا، بحيث بدا هتلر بمثابة خلاص من هذه الرمال المتحركة التي أدخلتهم إليها الأحزاب الليبراليّة والأرستقراطيّة التي رآها الألمان خائنة حين ارتضى زعماؤها عار معاهدة فرساي المجحفة. وبالرغم من محاولات هِتْ تقديم توصيف موضوعيّ للأحداث إلا أنّ بوسعنا أن نستشفّ انحيازه المتوقَّع إلى جنّة فايمار الليبراليّة، وانحيازًا أخطر إلى «عدالة» معاهدة فرساي التي يُقلِّل من وطأتها في مواضع عديدة، ويرى أنّ الألمان بالغوا في توصيف ظلمها، بل إنّهم لم يُبْدوا «أدنى امتنان» للفرنسيّين حين انسحبوا من الراين عام 1930.
ولكنّ ذلك الانحياز الجزئيّ لا ينسحب على تحليلات المؤلّف الصائبة حيال أسباب انتشار النازيّة لدى البروتستانت في المناطق الريفيّة، ولدى بروتستانتيّي الطبقة الوسطى المدينيّة. وكذا الأمر بالنّسبة إلى تشريحه الدقيق للأحزاب الألمانيّة وللمؤامرات الكثيرة المناصرة لهتلر والمناوئة له في آن التي يمكن لنا أن نستشف منها على نحو غير مباشر أنّ البديل لن يكون أفضل بالضرورة. فالشيوعيّون لن يكونوا أقلّ دمويّة أو دكتاتوريّة من النازيّين لو وصلوا إلى الحُكم، والأرستقراطيّون لن يكترثوا للأزمة الاقتصاديّة الطاحنة التي أنهكت الألمان؛ أما ليبراليّو الوسط والديمقراطيّون الاجتماعيّون الذين لا يخفي المؤلّف انحيازه لهم فقد أضاعوا الفرصة تلو الأخرى في تحالفات خاطئة وفي سذاجة سياسيّة، على عكس النازيّين الذين أتقنوا قراءة التحوّلات السياسيّة الداخليّة والخارجيّة وقراءة مشاعر الناس وانتهزوا الفرص بحزمٍ دمويّ من جهة، وبذكاء بالغ حين استثمروا أحدث وسائل الدعاية في حملاتهم الانتخابيّة وفي الإعلام الذي كان بيد يوزف غوبلز، ملك البروباغندا السياسيّة.
يشير المفكّر الإنكليزيّ أيزيا برلن إلى وجوب عدم التعامل مع النازيّين بكونهم مجانين، بل بكونهم بشرًا يمكن لهم ارتكاب أفظع الجرائم مع بقائهم بشرًا «طبيعيّين» وقعوا ضحيّة تضليلٍ هائل وأوهام فادحة وتلقينٍ خاطئ. هذا ما نجح فيه هِتْ بدرجة كبيرة إذ تناول النازيّين بكونهم ألمانًا وأوروبيّين ضمن ظروف استثنائيّة، ولكنّه غفل عن تبيان الصورة الأخرى الأهم: مشاعر الألمان أنفسهم أو مشاعر الأجانب غير الأوروبيّين الذين لم يروا الوحشيّة أو لم يكترثوا لها بقدر اكتراثهم بالاستقرار الاقتصاديّ والوضع المعيشيّ. نجد تلك الصورة لدى الراحل عمر فرّوخ في سيرته «غبار السنين» التي دوَّن فيها مشاعره أثناء دراسته في ألمانيا هتلر بين عامي 1935-1937، حيث يركّز على التّنظيم والاستقرار، مقلّلًا من أهميّة القبضة القاسية للنّظام على الحريّة الشخصيّة، إذ يرى تلك القيود «نعمة على أصحاب الاستقامة في الحياة. وقد كان الجهاز الحكوميّ يخدم المواطن والغريب على أنّهما إنسانان». يتحدّث فرّوخ تبعًا لأخلاقه المحافظة ونفوره من السياسة، وهذا ما يتشاركه مع ألمان كثيرين بطبيعة الحال، ولكنّهم يتناسون الصورة الأكبر التي تضمّ ضحايا لا حصر لهم قُتلوا لأسباب واهية. الصورة الكبرى متاحة لنا اليوم، ولعلّنا نجد من يرسمها بلا أدنى تحفّظات.
 
  
Share: