Friday, June 19, 2020

نيل غايمان: أبواب الخيال






ليس لكلمة «fiction» الإنكليزية، ولمثيلاتها في اللغات الأجنبية، مقابل عربيّ دقيق. لن تفيدنا كلمة «أدب» أو «سرد»، لأنّ «فكشن» تتّسع لمعنيَيْ الكتابة التخييليّة والخيال في آن. الكتابة مرتبطةٌ بالخيال، بل لعلها هي الخيال؛ فحتّى الكتابة «الواقعيّة» تخييليّة بصرف النّظر عن مدى صدقها ووثائقيّتها. لا بدّ من خيال كي تكتمل الكتابة وتبتعد من مجال الوثيقة الجافة والتقارير الرسميّة. ولكنْ مع تعاظم الكتابة الواقعيّة تقلّصت حصّة التّخييل لصالح «الصدق»، إلى درجة بات فيها كلُّ خياليٍّ يعني زيفًا، أو ابتعادًا من الواقع/الحقيقة. ولكنّ حصة الخيال حافظت على هيمنتها في الأدب الذي انسحب إلى الهامش: الأدب البوليسيّ، الخيال العلميّ، الرعب، الفانتازيا، وغيرها، والتي اختُصرت في مصطلح «أدب الجانْر». نادرةٌ هي المحاولات الناجحة لمزاوجة هذين النوعين الأدبيّين، وبذا صار لكلّ نوع جمهوره وقراؤه، وصار لكلٍّ منهما نقّاده أيضًا. صار من «الطبيعيّ» ألّا نطلب من كتّاب الجانْر أن يكونوا تولستوي مثلًا لأنّهم يكتبون في عالم متباين عن عالمه، ولكنّنا نلجأ إليهم حين نريد الخيال؛ وحاجتنا إلى الخيال جوهريّة كحاجتنا إلى الحب وإلى الهرب. نحتاج إلى الهرب من عالمنا فنلجأ إلى الخيال، وهي ليست حاجة نافلة أبدًا.
هذا بالضبط ما أرادته بطلتنا الصغيرة في نوڤيلا نيل غايمان «كورالاين» (منشورات «تكوين» - الكويت) التي قدّمها لنا هشام فهمي في ترجمة ممتازة، مواصلًا بها مشواره في تقديم أدب الجانْر إلى القارئ العربيّ. تودّ كورالاين أن تهرب من عالمها الخانق، ومن رتابة والديها وعالميهما، فتورّطنا معها في رحلة هربها تلك. الفارق هو أنّ كورالاين عاشت هذا العالم فيما نحن نقرؤه خيالًا. وفي هذا الفارق بالذات نلتقط معنى الفن. تبدأ رحلة كورالاين من باب يُفضي إلى حائط مغلق، ولكنّنا ندرك منذ البداية بأنّ هذا الباب سيكون مفتاح رحلتنا القادمة. المشكلة الأزليّة التي يعاني منها كتّاب الجانْر هي أنّ أدواتهم مكشوفة لأنّ الكتّاب الذين سبقوهم استخدموها. وستكمن البراعة في كيفيّة استثمار هذه الأدوات، وفي جذبنا إلى عالمٍ مختلف برغم إدراكنا بأنّه سيكون مختلفًا. حين تُدير المفتاح في الباب سنترقّب هذا الاختلاف. ولكن ليست كلُّ الأبواب سواء، ولذا ما من داعٍ إلى المقارنة مع «ألِس في بلاد العجائب» لأنّها مقارنة مجحفة بحق كورالاين وكاتبها على السواء، مع أنّ غايمان وقع أحيانًا في فخ استنساخ ألِس، ولكنّ كورالاين أذكى فجنّبته وجنّبتنا خيبة المقارنات.
تهرب كورالاين من الرتابة ومن عالم «لا» إلى عالم يبدو أجمل لأنّه عالمٌ ينتظرها هي بالذات. ستتحقّق أحلامها ورغباتها وخيالاتها كلّها، لأنّه عالم «نعم» المغري. ستجد أمًا أخرى وأبًا آخر وبيتًا آخر وجيرانًا آخرين ولكنّهم في الوقت ذاته يشبهون أمها وأباها وبيتها وجيرانها الأصليّين. براعة غايمان هي في مزج العالمين بحيث تضاعفَ تردُّد كورالاين، وتضاعفت حيرتنا بشأن العالم «الأصليّ» بين هذين العالمين. أين العالم الموازي حقًا؟ هل هو عالم الرتابة الخانقة، أم عالم الأحلام التي توشك على التحقّق؟ عالم ما وراء الباب شديد الإغواء. الطعام أشهى، الحيوانات تنطق، الألعاب أجمل. المشكلة الوحيدة هي أنّ سكّان هذا العالم استبدلوا أعينهم بأزرار. والدان بأعين طبيعيّة ولكنّهما مشغولان على الكمبيوتر ويتفنّنان في قول «لا» لابنتهما، أم والدان يلبّيان كلَّ ما ترغب ولكنّ أعينهما أزرار؟ إغراء «نعم» أقوى، ولا مشكلة في الأزرار. هذا ما تكاد كورالاين تختاره لولا أنّها تنبّهت فجأةً إلى أنّ هذا العالم الحُلُميّ لا أحلام فيه. ما معنى الفردوس إنْ لم تكن قادرًا على الحلم، إنْ تحقّق كلّ ما تريد؟ تلاشي الخيال في هذا العالم الخياليّ يعني كابوسًا بالضرورة. وهنا بدأت رحلة كورالاين.
حين تعي كورالاين أنّ خيار «نعم» ليس خيارًا حقًا بل هو الخيار الأوحد، ستُدرك أنّ عالم الرتابة القديم أجمل لأنّ خياراته أكثر. وهنا ندخل إلى الكابوس الفعليّ. ليست الأزرار مشكلتَنا الوحيدة في نهاية المطاف، بل إنّنا في عالم ينتزع منك روحك، وإنسانيّتك، ومعنى بشريّتك. نرافق كورالاين في مغامرتها الشرسة الآن، في رحلة مقاومتها لسيّدة ذلك العالم الكابوسيّ. الرحلة طويلة، طويلة لدرجة أنّنا أحسسنا بالملل أحيانًا، ولكنّ كورالاين تنتصر وتعود إلى عالمها. تتضاعف خيبتنا لهذه النهاية غير المنطقيّة بعد الإملال الذي فرضه علينا غايمان لولا تنبُّهنا فجأةً إلى أنّ الكتاب لم ينته بعد. هذا ما ندركه نحن وتجهله كورالاين. لا يمكن لك الهرب من الكابوس تمامًا، لأنّه سكنَك ولو مؤقتًا، وعلقت آثاره بك. وهنا تبدأ الفصول الأخيرة التي غفرنا فيها لغايمان حين أدركنا أنّه نجح في خداعنا لندخل الآن في الرحلة الحقيقيّة التي ستنتهي نهاية سعيدة طبعًا. طبعًا؟ لسنا متأكدين لا نحن ولا كورالاين برغم هدوئنا النسبيّ وعودتنا إلى الرتابة الجميلة ورفض طلباتنا.
صحيحٌ أنّ والديها صارا ألطف وأكثر حنانًا، وصحيحٌ أنّها حظيت بقطٍّ جميل رافقها في مغامراتها بين العالمين، وصحيحٌ أنّها باتت أقرب إلى جيرانها الذين أدركوا نطق اسمها الصحيح (كورالاين لا كارولاين من فضلك!)، وصحيحٌ أنّها صارت تتقبّل أشياء ما كانت تتقبّلها قبل مغامرتها، كأن تأكل بيتزا رديئة أعدّها أبوها، ولكنّ الكابوس لم ينته تمامًا (لا، كابوس آخر غير البيتزا الرديئة)، أو على الأقل لا نعلم إنْ كان قد انتهى حقًا، لأنّ الخيال موجود. وطالما أنّ الخيال موجود فهذا يعني أنّ الخيارات مفتوحة كلّها. ولعلّ هذا ما تريد نوڤيلا «كورالاين» أن تقوله: هناك أحلام وهناك كوابيس بالمقابل، هناك «لا» وهناك «نعم» بالمقابل، وهناك أبواب، أبواب كثيرة تُفضي إلى عوالم كثيرة. أيّها أفضل؟ ليس مهمًا طالما أنّ بوسعك أن تهرب حين تشاء وتعود حين تشاء وتَقْبل حين تشاء. 
     

Share:

Friday, June 12, 2020

ليديا أفيلوفا: تعال وخذ حياتي






سنقترف مجازفةً محفوفةً بالمخاطر لو انزلقنا إلى مماهاة الكاتب بشخوصه. يصدق هذا على معظم الكتّاب، ولكنّه يصدق بشدّة على أنطون بافلوفتش تشيخوف. لدينا ما يقارب 600 قصة، وما يقارب 20 مسرحيّة مختلفة الطول تضمّ آلاف الشخصيّات، ومن الطبيعيّ أن نجد شخصيّات عديدة تتشابه مع شخصيّته بهذا القدر أو ذاك، ولكنّ هذا لن يفيد تشيخوف ولن يفيدنا. ليس لنا إلا اللجوء إلى المصادر التي تناولت سيرته وحياته، وهي مصادر شحيحة بكل أسف ولكنّها تقدّم شخصيّة متناغمة على اختلاف كتّابها ومدى قربهم من تشيخوف: طيّب، متواضع، لطيف، ذكيّ، ساخر، غاضب بحقّ حينما يستلزم الأمر، وصموت حينما يستلزم الأمر. تزوّج في سنّ متأخّرة نسبيًا عام 1901 بالممثلة المسرحيّة أولغا كنيبر زواجًا من دون بهرجة ومن دون حبّ عاصف، إذ واصل قضاء سنوات مرضه الأخيرة في يالطا فيما واصلت حياتها المهنيّة في مسارح موسكو إلى حين وفاته عام 1904. كان هذا التفصيل الأخير محلّ جدالٍ دائم بشأن علاقات تشيخوف النسائيّة: هل واصل علاقاته العابرة التي كان مولعًا بها قبل زواجه أم استكان لعزلته من دون علاقات؟ ليس لدينا أدلّة حاسمة، باستثناء أمرين: قصّته العظيمة «السيّدة صاحبة الكلب» التي ماهى نقّاد كثيرون بين بطلها غوروف وكاتبها تشيخوف، ولكن لا ينبغي أن ننسى أنّ القصة نُشرت عام 1899 قبل عامين من زواجه بصرف النظر عن مدى تشابه الشخصيّتين؛ ومذكّرات الكاتبة الروسيّة ليديا أفيلوفا «تشيخوف في حياتي» التي صدرت أخيرًا عن دار «فواصل» بترجمة نوفل نيّوف.
تتمحور المذكّرات حول علاقة الحب التي عاشتها أفيلوفا مع تشيخوف، أم لعلها علاقة حب عاشاها معًا طوال عشر سنوات؟ تؤكّد أفيلوفا على الاحتمال الثاني بطبيعة الحال، ولكنّها واجهت وستواجه مخالفين كثيرين يعتقدون أنّها تخيّلتْ أو بالغت في أحداث كثيرة بحيث «أرغمت» تشيخوف على أن يكون بطلًا في قصة حب لم يعشها، أو على الأقل لم يتعامل معها يكونها قصة حب. كان لدينا عشرات الرسائل المتبادلة بينهما، تخلّصت أفيلوفا من معظمها، وبذا لم يبق لدينا إلا رسائل قليلة ليست فيها أدنى حميميّة، ولدينا أقوال أفيلوفا، فقط. تشيخوف عاجز عن الرد بطبيعة الحال لأنّ المذكّرات نُشرت بعد وفاته، ولم يُعثَر على رسائل شخصيّة بين أوراقه تضمّ ما يتجاوز علاقة معرفة لا تصل إلى مرحلة صداقة عميقة. كيف نقرأ الكتاب إذن؟ لدينا احتمالان: إما أن نقرأه بوصفه كتابًا مُتخيَّلًا، وبذا سنضمن قراءة شديدة الإمتاع، والتقاطات ذكيّة من المؤلّفة لمظاهر بعينها من مظاهر شخصيّة تشيخوف؛ وإما أن نتعامل معه بوصفه شهادة واقعيّة صادقة، ولا بدّ لنا حينئذ من مقارنة المعلومات التي فيه مع المعلومات الني نعرفها من المصادر الأخرى التي تضمّ أدلّة أكثر وأصدق، ولكن لن تكون النتيجة لصالح المؤلّفة قطعًا.
تنقسم المذكّرات إلى قسمين يحضر تشيخوف في القسم الأول منها بوصفه الكاتب المُرشِد المتواضع أكثر من أيّ صفة أخرى؛ لا نجد في الحوارات أو الرسائل أو اليوميّات ما هو أكثر من نصائح بشأن الكتابة يقدّمها الكاتب الأكثر خبرة للكاتبة التي تحاول شقّ طريقها. سنجد تلك العبارات التشيخوفيّة الثاقبة حين يتحدث عن أنواع الكتّاب وعن الزاوية التي يفضّل أن يرى الحياة والكتابة منها، وسنجد نصائح لا يمكن التشكيك بمدى تشيخوفيّتها أبدًا كما حين يشير إلى أنّ على الكاتبة ألّا تكتب «وإنّما أن تطرّز الورقة بحيث يكون العمل شديد الدقة والبطء». ولكن حين ننتقل إلى الصعيد الشخصيّ وإلى المحاورات الحميمة التي كتبتها أفيلوفا، لن يكون بوسعنا الركون إلى أقوالها وحدها لأنّها تكتب عن تشيخوف مختلف عن ذاك الذي نعرفه؛ يبدو تشيخوف أفيلوفا مستهترًا، مزاجيًا، وينطق بعبارات حمقاء متناقضة لا تشبه عباراته الدقيقة التي عرفناها من مصادر أخرى، تلك العبارات التي لا فرق فيها بين النطق وبين الكتابة، عبارات مُصاغة ببراعة من عقلّ ألمعيّ حتى حين يخاطب أبسط الأشخاص. أما في القسم الثاني الأجمل نجد أن تشيخوف الكاتب قد تلاشى تقريبًا وحلّ محلّه تشيخوف العاشق كما تصرّ أفيلوفا، مع أنّ الرسائل المرفقة بالمذكّرات لا تضمّ ما يومئ إلى هذا العشق، بل لا تعدو كونها رسائل عاديّة بتوقيع شبه رسميّ. وأخيرًا نقع على فصل مفرط الرقة في علاقة جميلة حين توصي أفيلوفا على تعليقة ذهبيّة على شكل كتاب حفرت على وجهها الأول اسم تشيخوف وعنوان أعماله، وعلى الوجه الآخر رسالة مرمّزة برقم صفحة من أعمال تشيخوف، تضم العبارة التي تودّ أفيلوفا إيصالها إلى تشيخوف: «إذا ما احتجتِ يومًا إلى حياتي تعالي وخذيها». وسنجد هذه العبارة ذاتها على ميداليّة مماثلة مع أرقام صفحات مختلفة على لسان تريغورِنْ في مسرحيّة «النورس». لحظة الاكتشاف وانغلاق دائرة الترميزات الشفيفة لحظة مدهشة لو كانت قد حدثت حقًا، ولكنْ مرة أخرى لا سبيل إلى التأكد لأنّ أفيلوفا تشير إلى أنّ الأرقام الجديدة التي وردت في المسرحيّة تشير إلى عبارة أخرى تخص الحفلات التنكريّة من أحد أعمال أفيلوفا، بما أنّها حضرت مع تشيخوف حفلةً تنكّرية قبل فترة وجيزة من عرض «النورس». لعل هذا ليس مهمًا، سواء صحّت رواية أفيلوفا أم لا، إذ ستبقى هي وروايتها لهذه الحادثة مرتبطةً بالمسرحيّة كلّما قرأنا أو شاهدنا ذلك المشهد، وهو أحد أجمل مشاهد المسرحيّة، على الأخص حين نتذكّر إشارات نقديّة عديدة تقول إنّ تشيخوف رسم صورة ساخرة من نفسه في شخصيّة تريغورِنْ.
يقول غوركي في عبارته الشهيرة عن تشيخوف: «يُخيَّل إليّ أنّ كلَّ من يكون في حضرة تشيخوف يشعر برغبةٍ لاواعيةٍ في أن يكون أبسط، وأصدق، وأقرب إلى حقيقته». لعلّ أفيلوفا هي الاستثناء لهذه القاعدة الغوركيّة، أو لعلّها لم تُحسن الاستفادة من درس تشيخوف إذ لا تبدو أبسط وأقرب إلى حقيقتها، ولا نعلم ما إذا كانت أصدق. لا نجد تشيخوف في هذه المذكّرات، بل نجد صورة مختلفة له. ربما كانت صورة أجمل بالنسبة إلى أفيلوفا، ولكنّها ليست صورة تشيخوف. ربما تكمن المفارقة في أنّ أكثر أعمال أفيلوفا تخييلًا هو مذكّراتها التي تروي حكاية أحد أعظم من رسم الواقع من دون أن يتخلّى عن براعة التخييل. ولعل هذا هو الدرس الذي استمدّته أفيلوفا من تشيخوف وأتقنته: الواقع لا يهم، اكتب حياةً أقسى من الواقع وأبهى منه في آن.        

Share: