Sunday, August 18, 2019

نسرين أكرم خوري: بحر في حمص






بخلاف ما يظن كثيرون، لم تكن جمهوريّة أفلاطون (أو سقراط فعلياً) تُقصي جميع الشعراء والفنّانين، بل كانت تُقصي فنّانين بعينهم. إن كنتَ تكتب في مديح الآلهة والحكّام-الآلهة فأهلاً وسهلاً بك، أما كلّ ما تبقّت من مواضيع فمرفوضة. كان الرفض، إذاً، للموضوع. وما غاب عن ذهن أنصار الجمهوريّة وأنصار الفن على السواء هو أنّ تلك الجمهوريّة لم تُخلَق للفنانين، ولا تعنيهم أساساً. كانت تلك جمهوريّة الواقع، أما عالم الفن فهو في مكان آخر تماماً. أن تخلق واقعاً قد لا يرضي أحداً، بل ربما كان من الأفضل أن لا يرضي أحداً. بكلمات أخرى، أولى شروط الفن هي هدم الشروط كلها.
وإنْ كانت الحياة/الواقع تبدأ بصرخة وتنتهي بزفرة أخيرة، كان من «الطبيعيّ» أن تبدأ رواية نسرين أكرم خوري «وادي قنديل» (منشورات «المتوسط») كما يفرض عليها واقعها هي، لا الواقع القائم. تبدأ الرواية من المقبرة، من الزفرة الأخيرة، لتنتهي بـ «البداية». وحتى البداية هنا ليست إلا رحيلاً آخر، من المطار إلى المجهول. دائرة الرحيل تلك لا ترسم حياة ثريا لوكاس فقط، بل تحكم مسار الرواية بأكملها. الشخوص كلها تولد لترحل إلى بداية جديدة، بعد أن يترك رحيل كلٍّ منها أثراً في مسار حياة الآخر، وهكذا إلى حين انفتاح الدوائر كلها. وكيلا تبدو تلك الدوائر خانقة، كانت اللعبة الذكيّة في تغيير الأمكنة والأزمنة. ينتقل القارئ بسلاسة بين المستقبل والماضي، ومن قبرص إلى اللاذقيّة وحمص وبيروت كأماكن أساسيّة، بينما تكون الأماكن الأخرى محفورةً داخل الشخوص الأخرى. كلّ شخصيّة تحمل مكانها داخلها. قد يبدو الأمر أقرب إلى نمطيّةٍ على نحوٍ ما، أرخت بثقلها قليلاً على الرواية، ولكنّ سلاسة السرد وتنوّع الشخوص بذاتهم أعادت شدّ الإيقاع مرةً أخرى.
تبدأ جدليّة الإنسان و المكان من أول الرواية إلى آخرها. بين مستقبل وماضٍ ثابتين، نجد الحاضر رجراجاً متقلّباً ضبابياً، وكأنّ المكان بذاته (وهو جوهر الحاضر) يئنّ دوماً بين ذاكرتين، ذاكرة الماضي الجارحة وذاكرة المستقبل المجهولة، ولذا كانت اللعبة الماكرة في جعل المكان وهماً لا يمكن إمساكه إلا من خلال الكلام. وحتى العنوان الذي يشير صراحةً إلى مكان ليس إلا إيهاماً لأنّ وادي قنديل نفسه كان غائباً، أو عملياً لم يكن يحضر إلا ليغيب حين يُزيحه مكان آخر من الماضي أو المستقبل. لم تقتصر لعبة التواطؤ التي خطّطت لها غيم حدّاد على جمع شخوص متنوّعة في مكان واحد لكتابة روايتها، بل أيضاً جلبت أمكنتهم معهم ليجتمع خليط الهويّات والأزمنة والأمكنة واللهجات والطوائف على شاطئٍ يتغيّر بتغيّر الرياح والأمواج، وبوطأة الحرب الثقيلة التي كبّلت الهواء نفسه. تطرح الرواية وجهات نظر عديدة، تبدأ بالحرب وتنتهي بها، ولكن من دون التخلّي عن الحياة وهمومها «الصغيرة» في الحب والجنس والتسلّط والقلق والغيرة والزّيف، بل وثمة رواية تُكتَب داخل الرواية. ولكنّ هدف نسرين خوري لم يكن كتابة رواية داخل رواية، أو تشريح حياة شخوصها، بقدر ما كان كتابة المكان، أو بالأحرى ذاكرة المكان.
لذا كانت حمص بهذه القوة في الرواية. لا لأنّها مدينة الكاتبة وبطلتها فحسب، بل لأنّها كانت، لأسباب كثيرة، صاحبة الحصة الأكبر في الحضور داخل الحرب السوريّة. وأن تحضر مدينة في الحرب بهذه القوة، يعني أنّها ستصبح مدينة الجميع بهذه الدرجة أو تلك. ربما كانت المدن والأمكنة ملك الجميع، ولكنّ الذاكرة، ذاكرة المكان، فرديّة بالضرورة. ولذا أرادت نسرين (وغيم) كتابة حمص. قد لا تشبه حمص الرواية حمص الحقيقيّة، بل ربما لم يتبقّ الكثير من حمص الحقيقيّة لأنّها حضرت كثيراً في الحرب، والحضور هنا يعني الغياب، يعني الغموض وآلاف الخيوط العصيّة على الأرشفة والكتابة، وربما لأنّ غيم «لا تُغرَم بالآخرين، بل تفاصيل تخصّهم، أو بما رغبت أن تراه فيهم»، كانت حمص غيم متوتّرةً قلقةً مثل صوت أغنيةٍ في راديو توشك بطاريّته على الانتهاء. تظهر الشخوص الحمصيّة بسرعةٍ وتختفي كما ظهرت. تحاول قول ما تستطيع، ما يتيحه لها الوقت بدل الضائع، لذا لا تقول الكثير، بل تُبقي أطراف الكلام مفتوحةً على احتمالات شتّى. كانت الفصول التي تؤرشف لحظات حمص أقرب إلى لوحات قصصيّة تنوّع إيقاع السرد، وحتى مع كونها لوحات تخص غيم وحدها، كما التقطتها ذاكرتها، إلا أنّ اختلاف الشخصيات الحمصيّة بقي مرسوماً ببراعة.
لا نعلم مستقبل الرواية السورية، ولكنّها ستكون رواية أمكنة على الأرجح. سيختفي السوريّ ويبقى مكانه. ربما هي لعنة أخرى، وربما هي الوسيلة الوحيدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ليس الفن مُنقِذاً بكل تأكيد، ولن يكون، ولكنّه يملك ما لا يملكه غيره. يملك الخيال. وفي متاهة الوقائع، ليس للراغب في الهرب إلا التشبّث بالخيال، والذكرى والحلم. وهذا ما فعلته نسرين أكرم خوري في «وادي قنديل». رسمت بطلتها غيم حدّاد وتركتها تُفرغ ذاكرتها وأحلامها بمدينتها البعيدة. لا وادي قنديل ولا بحر في حمص. هناك حرب وسياسة وجدالات وسجالات فقط. ولكن تمكّنت غيم من فعل ما عجز عنه الحماصنة كلهم، كما تقول النكتة الدارجة. لم تنقل البحر إلى حمص، بل أخذت حمص إلى البحر. هذا ما يفعله الخيال والفن، ويعجز عنه الواقع.    

Share:

Friday, August 2, 2019

علي سعيد: فِخاخ الذّاكرة






يشير هارولد بلوم، في معرض حديثه عن تيّار الأدب السّاخر في أميركا، إلى أنّ السّخرية لم تعد ذات جدوى في أيّامنا، إذ وصل الواقع إلى أشواط تتخطّى أقصى حدود السّخرية. بعد عقد أو أكثر على كلام بلوم، هل ما زال تحليله صالحاً؟ والأهم: هل يسري كلامه على الواقع العربيّ الذي لا يشكّل الواقعُ الأميركيّ بكل تطرّفاته حين نقارنه به إلا نكتة سمجة؟ هل يمكن للأدب السّاخر أن يصمد أمام هزليّة الواقع العربيّ التي تجاوزت حدود العبث؟ أظنّ أنّ مجال السّخرية مفتوح إلى أقصاه، إذ هي كالخيال لا حدود لها. وطالما أنّ إشارات الكتّاب أصحاب النبوءات عن الحياة التي تُحاكي «التّخييل» تجد أصداء لها في ما حدث ويحدث في حياتنا، ستبقى للسخرية مكانتها التي هُمّشت وقُزّمت في الأدب والصّحافة.
تنطلق رواية علي سعيد «كونيكا 19» (دار أثر) من حادثة بسيطة تتحوّل مع مسار الرواية إلى فانتازيا ساخرة بديعة. لا يغيب الحسّ الصحفيّ من الرواية، حتى بعد أن توقّف سعيد عن الكتابة الصحفيّة المباشرة. إذ تتشكّل الرواية من مجموعة فِخاخ متعاقبة تنفتح وتنغلق بالتّتابع وصولاً إلى النّهاية. تبدأ الحبكة من فيلم كونيكا فوتوغرافيّ قديم يبدو مثل رسالة منسيّة من الماضي، لم يعد لمُستقبِلها وجود في الحاضر. من يتذكّر الصور الفوتوغرافيّة أساساً؟ لولا دراسات فالتر بنيامين وغرترود ستاين وسوزن سونتاغ وغيرهم التي تواصل حضورها في المشهد الفكريّ لما بقي للفوتوغرافيا معنى اليوم ربّما في ظل طوفان الديجيتال و«فوريّة» الحدث. إذن تبدأ الرواية بفخّ من الماضي بالتّوازي مع عناد الراوي في معرفة محتويات هذا الفيلم القديم في ظلّ تلاشي جميع محلات التصوير الفوتوغرافيّ القديمة. وبما أنّ الصورة بمثابة ذاكرة ثابتة كامنة، تتداعى ذكريات متشابكة للراوي الأساسيّ وللمصوّر الفوتوغرافيّ الوحيد الذي ما زال يواصل مهنته (والذي سيصبح هو الراوي الثاني) وللصور نفسها (لا صور الفيلم القديم، بل صور أخرى. فلنتذكّر دوماً أنّ الرواية مجموعة فِخاخ متراكبة) وللشخوص التي تضمّها الصور ولذكرياتهم التي تحرّض ذكريات أخرى.
تنفتح الحبكة الأولى على حبكة ثانية تأخذ المساحة الأكبر من الرواية. يصبح عبد الكريم، المصوّر الفوتوغرافيّ العنيد، هو محرّك الأحداث مع وصيّة أبيه الذي يطلب منه تأدية صلوات أهملها الأب طوال 19 عاماً، ومن هنا تنطلق فانتازيا الأحداث في فصول ساخرة مضحكة نتابع فيها على التوازي رحلة تأدية الصلوات ورحلةً أخرى أجمل وأعمق، هي رحلة الذاكرة التي يتضافر فيها الماضي مع الحاضر، وتقنيّات التّصوير مع جماليّاته، والفردانيّة شبه المستحيلة لدى الفرد العربيّ مع معنى العائلة، وألوان حاضر الديجيتال مع الماضي حيث لا مكان إلا لجلال الأبيض والأسود وضبابيّة السيبيا. يُواصِل سعيد رحلة الذكريات التي تحفر في الزمن مع تشريحٍ خفيٍّ للمجتمع السعوديّ عبر جيلين، جيل الآباء وظروفهم الأكثر تحرّراً وجيل الأبناء الذين ورثوا وطأة قيود النزعة المحافِظة التي تبنّاها الآباء في أواخر حياتهم، ودمغوا بها جيلاً ولد وعاش ويواصل حياته يدفع ضرائب «صحوة» لا ذنب له فيها. هل نحن في الحاضر حقاً أم أنّ آثار الماضي تنتقل بالجينات، بكل أخطائها وجماليّاتها وتعقيداتها؟ هل نعيش سياق الحاضر كأبناء أم إنّنا نعيش سياقنا وسياق آبائنا؟ هل نقترف أخطاءنا فقط أم نرث أخطاء آبائنا أيضاً؟ تتلاحق هذه الأسئلة كلّها، وغيرها، في «كونيكا 19» التي تبدو في آن مثل شريط وثائقيّ يعرض حياة جيلين، ومثل قطرة زيت تبدأ بتفصيل صغير عابر، وتتضخّم أكثر فأكثر لتغطّي خريطة كاملة، خريطة ترسم حدود الواقع والخيال، الماضي والحاضر، الذكريات وتداعياتها، خريطة مائيّة رجراجة لا سبيل إلى توصيفها بدقّة مع تسارع الأحداث وتصادم المصائر وتداخل الذكريات. بين أيدينا رواية تبدأ من الحنين ولا تكتفي به، بل تستثمر هذا الحنين لوضع الأصابع على الجراح الكثيرة التي تُثخن جسد الحاضر. رواية تطرح الأسئلة الصحيحة في زمن الأسئلة الخاطئة. رواية تخدع القارئ الباحث عن الحبكة البسيطة، وتقدّم عالماً ظاهرياً خادعاً يخفي خلفه عوالم عديدة متباينة تستند إلى السخرية من أجل كشف بشاعة الواقع الذي نسف احتمالات الضّحك كلّها، أمام جيل شاب انتُزع منه كلّ شيء باستثناء إمكانيّة الضحك والسخرية.
يميل الكتّاب عادةً إلى الطريق الأقصر في كتابة الرواية الأولى، عبر اختيار حدّوتة بسيطة تتشابك مع السيرة الذاتيّة. ولكنّ علي سعيد اختار الطريق الأصعب عبر تقديم رواية مركَّبة حاولت مقاربة أسئلة شائكة كثيرة. وقد انفرطت الخيوط أحياناً من يد الكاتب الذي وقع في الثلث الأخير من الرواية في مطبّ التطويل، وإدخال العالم الساخر الأول (الصلوات المنسيّة)، الذي نسيه القارئ، مع العالم الثاني التشريحيّ الأعمق (رواية الأجيال والعائلة وتداعي الذكريات) الذي أوصل السرد إلى مستوى ناضجٍ عالٍ بالمقارنة مع البواكير الروائيّة المعتادة. ولكنّ المهم هنا هو ولادة روائيّ جريء لا يهاب المغامرات، وهذا هو الشرط اللازم والكافي لإدراك أنّ صاحب «كونيكا 19» يضع رهاناً كبيراً أمام نفسه ككاتب في شقّ مسيرة روائيّة واعدة، وهذا ما سنراهن عليه نحن أيضاً.          

Share: