Friday, November 20, 2020

مارينا تسفيتايفا: أنا الزَّبد البحريّ الفاني

 

 


 

 

كيف لشاعرةٍ تُعرِّف نفسها بأنّها «الزَّبَد البحريّ الفاني» أن تبلغ الخلود؟ لعلّ أبلَغ الشِّعر أكذبه كما يقول العرب. هل ثمّة مُقابِل روسيّ لهذه العبارة؟ لا نعلم. ولعلّ صاحبة العبارة نفسها لا تعلم بالرغم من كونها روسيّة. عاشت مارينا تسفيتايفا عُمرها كلّه في تأرجحٍ مؤلمٍ بين أن تكون البحر وأن تكون الزَّبَد. هي تدرك حتماً أنّ الزَّبد ليس للشعراء؛ ليس للشعراء الخالدين بطبيعة الحال. غير أنّها تُراوِد الفناء منذ مراهقتها التي شهدت ولادة بواكير أشعارها، تُراوِد الفناء كي تنال الخلود. تُباغتنا تلك المراودة الحارقة منذ القصائد الأولى التي نقرؤها في كتاب «بعضُ حياةٍ وشعر» الذي صدر أخيراً عن دار «التّكوين» بترجمة نوفل نيّوف الرّهيفة كما عوّدنا دوماً. تُباغِتنا المراودة التي تبوح بها ابنة السابعة عشرة: «يا إلهي ... أنتَ مَنْ وهَبْتَني طفولةً أفضلَ من خرافة/ هَبْني الموتَ في السابعة عشرة». هُراء مراهقة؟ لا، أبداً؛ إذ نعلم من اعترافات تسفيتايفا نفسها قبل انتحارها بعامين أنّ كلَّ ما أحبَّتْه، أحبَّته قبل السابعة، وأنّ كلَّ ما يعنيها ويمنحُ وجودَها قيمةً وأهميّةً كان قبل السابعة: اللعب بالشِّعر قبل أن تُدرك ماهيّة الشِّعر؛ اللعب باللغات (التي كانت تتحدّث ثلاثاً منها قبل السابعة) قبل أن تُدرِك بلاغة اللغة. استجاب الله لأمنيتها بعد أكثر من ثلاثين عاماً، فوهَبَها الموت انتحاراً وهي في التاسعة والأربعين، بعد أن فقدَتْ أحبّاءها كلّهم موتاً ومنفى وبُعداً، زوجاً وعشاقاً وأطفالاً وأهلاً وأصدقاء، وبعد أن خبتْ شمسُها الشِّعريّة وكادتْ تأفل، لتعود كما كانت تُحبّ أن تكون على الدوام: «ظلّاً لظلّ»، من دون أن تنتبه إلى مفارقة أنّ الأضواء الساطعة التي سعتْ هي بكلّ إرادتها على مدار أكثر من عقدين كي تعيش تحتها، ستُبدّد الظّلال، وستُبدِّد كينونتها في آن. ولم تظفر بكينونتها من جديد إلا في العتمة الصقيعيّة التي شهدت أنفاسها الأخيرة في روسيا البلاشفة الذين ما أحبَّتْهم مارينا يوماً، وما استساغها البلاشفة يوماً. حياة مفارقات موجعة؛ حياة ظلال دائمة، منذ كانت روسيا قيصريّةً، وحتّى حين رحلت تسفيتايفا إلى المنافي، وحتّى بعدما أُرغِمت على العودة إلى روسيا التي تغيّرتْ وحاربتْ كلَّ مَنْ بقي على عناده القديم. كانت تسفيتايفا تعيش في المنفى على الدوام، حتّى حين ظنّت أنّها ستصبح الملكة الجديدة المتوَّجة على عرش «العصر الفضيّ» للشِعر الروسيّ. كانت ظلّاً في البلاد، وظلّاً في المنفى.

ينقسم كتاب «بعضُ حياةٍ وشعر» إلى قسمين، كما يُومئ عنوانه: «بعض حياة»، و«بعض شعر». تسبقهما مقدّمة ضافية من المترجم، ويليهما ملحقان أوّلهما يضم مقتطفات من دفاتر يوميّات تسفيتايفا، وثانيهما يقدّم قصّة مهمّة للقاءين بين أكبر شاعرتين عرفتهما روسيا: آنا أخماتوفا و مارينا تسفيتايفا، اعتمد فيها المترجم على مراجع عديدة، من كتب سيرة ورسائل ويوميات، لا يتوفّر معظمها كاملاً إلا في الروسيّة، ليذكّرنا – ولو على نحو غير مقصود – بأنّ الترجمة عن اللغة الأصليّة، نصوصاً إبداعيّة أم لا، ستفقد الكثير حين تُتَرجم عن لغات وسيطة كما نُبْتلى في الغالب الأعم من الترجمات، لا سيما عن الروسيّة التي نكاد لا نعرف عن أدبها شيئاً بخلاف أدب «العصر الذهبيّ» في القرن التاسع عشر. تمنحنا المقدّمة والملحقان مفاتيح كثيرة مهمة لقراءة قصائد تسفيتايفا التي لا تنفصل حياتها عن قصائدها: طفولتها المتفرّدة، مراهقتها الغارقة في الشِّعر، بدايات شهرتها في روسيا، ومن ثمّ في المنفى، أفول بريق أضواء الشهرة شيئاً فشيئاً بالتّزامن مع تباعد الصداقات الشّحيحة أساساً. كلّ هذا بالتّوازي مع الحياة الأعم حيث التأثيرات الثقافيّة الروسيّة والأوروبيّة (الفرنسيّة والألمانيّة على الأخص)، والتأثيرات السياسيّة المتلاحقة التي غيّرت خارطة روسيا عسكرياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً. ما عادت روسيا بلادَ العصر الذهبيّ الذي طبع أوروبا والعالم بطابعه المميَّز، وما عادت حتّى روسيا القائمة على التّنافسات الثقافيّة بين المدارس الأدبيّة، أكانت تنافسات بين أعظم مدينتين: موسكو وبطرسبورغ، أم بين التيّارات الأدبيّة العظيمة حيث كلّ كاتب وشاعر كونٌ بحاله لا يشبه أحداً سواه. باتت روسيا فريسة انقسامات سياسيّة أقسى لم تعد مقتصرة على ثنائيّة الداخل والمنفى، بل تسلّلت إلى كلّ شيء كي تنسف التفرّدات والصداقات والتّنافسات، كما حدث في ألمانيا في حقبة النازيّة لاحقاً، وكما سيحدث في أميركا المكارثيّة، وكما حدث ويحدث وسيحدث في منطقتنا الملعونة دوماً، بربيع أم بغير ربيع، بدكتاتوريات عسكريّة أم مدنيّة.

تضمّ المختارات الشعريّة 71 قصيدة كاملة أو مجتزأة كتبتها تسفيتايفا من عمر السابعة عشرة عام 1908 وصولاً إلى انتحارها عام 1941، ويضمّ القسم النثريّ مقتطفات من يوميات تسفيتايفا من عامي 1917 و1919 قُبيل رحيلها إلى المنفى. يبدو النّثر أبهى لديها، ربّما لأنّه أوضح أو أكثر حميميّة أو أكثر شمولاً من القصائد. نتعرّف في النّثر إلى عقل وقلب تسفيتايفا من دون ذلك الفصل التعسّفيّ الذي نظنّ وجوده بينهما. تكتب بقلبها، لا بالمعنى الدارج حيث جموح العواطف، بل بمعنى الرهافة التي ترسم حدود علاقتها باللغة وبالعالم وبالشعر حتّى حين تكتب نثراً، حيث الشعر هو الجسد وهو الروح، وهو البلاد وهو المنفى، وهو العشق الذي لا تهدأ جذوته، أكان عشقاً لزوجها أو عشّاقها أو شعرائها من ريلكه إلى باسترناك شخصاً وقصائد. لا نستشعر هذه الحميميّة في القصائد، ربّما بسبب غموضها أحياناً، وربّما لأنّها قليلة أو مجتزأة في معظمها. يتعاظم هذا الإحساس حين نقرأ الملحق الذي نجدها فيه وجهاً لوجه مع منافستها الأعظم آنا أخماتوفا. يتشارك القارئ مع أخماتوفا تردّده حيال قصائد تسفيتايفا، ولعلّ هذا لأنّنا نعرف أخماتوفا أكثر (من ناحية الكم على الأقل)، أو لأنّ بهاء أيّة شاعرة، مهما علا شأنها، سيخفت في مواجهة ضوء أخماتوفا الحارق. هذا قَدَر من يولد في زمن عبقريّةٍ طاغية، كما هو قَدَر أبي فراس حين زامَنَ المتنبّي. غير أنّ عبقريّة أبي فراس تتألّق حين لا يشبه المتنبي، وكذا هي عبقريّة تسفيتايفا التي تتّقد حين تكون هي هي، بحميميتها وعزلتها ودنيا ظلالها، وفي دفاترها التي لن تستغني عنها، حيث «الكتابة-العيش»، حيث الحياة هي الشعر والشعر هو الحياة، حيث التّوق الدائم لما لا يكون، حيث الحب هو الموت لدى تسفيتايفا التي تعرف نفسها أكثر مما ينبغي ربّما، ولذا احترقت قبل الأوان، حين انتحرت، «لا لأنّ الحال سيئة هنا، إنّما لأنّها جيّدة هناك»، أياً، وحيثما، وأينما، تكن تلك الـ «هناك».

Share:

Thursday, November 19, 2020

عمر أميرلاي: 40 عاماً من «الاستلهاب»

 


 

 

هل ثمة مغزى من الكتابة عن شريط تسجيليّ بعد أكثر من 40 عاماً على إنجازه؟ ربما ينبغي إضافة عدة كلمات إلى هذا السؤال ليكون له مغزى بذاته. شريط تسجيليّ سوريّ. 40 عاماً على إنجازه ومنعه من العرض. هكذا سيستقيم السؤال إلى درجة كبيرة. بل وربما لا معنى للحديث عن شريط «الحياة اليوميّة في قريةسوريّة» (82 دقيقة، 1974) دون التطرّق إلى حياة مبدعَيْه سعد الله ونّوس (1941-1997)، وعمر أميرلاي (1944-2011). شارك ونّوس في إعداد هذا الفيلم بعد إخفاق محاولته «الانقلابيّة» المسرحيّة بعد عرض مسرحيّته «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» (1968، 1971). وأخرج أميرلاي هذا الفيلم إثر خيبة أمله بعد شريطه التفاؤليّ الأول «محاولة عن سدّ الفرات» (1970). ولذا كان فيلم «الحياة اليوميّة» نقطة انطلاق جديدة لمبدعيه، يمكننا فيها تلمّس جذور أعمالهما اللاحقة التي أوغلت في التشريح القاسي للمجتمع السوريّ انطلاقاً من «العقد المُغيَّب» في التاريخ السوريّ الراهن، أي عقد السبعينيّات. هنا بالذات تكمن أهميّة هذا الشريط التسجيليّ الذي يعتبره البعض أول شريط تسجيليّ عربيّ.

يحدّثنا ونّوس عن الظروف التي رافقت إنجاز الشريط في مقالته «سيرة فيلم موقوف» (1975)، حيث يشير إلى أنّ العمل استغرق عاماً كاملاً على ثلاث رحلات بين نيسان (أبريل) 1971، ونيسان (أبريل) 1972، إذ «وجدنا أنفسنا منذ بدء العمل مضطرين للقيام بمهام الإحصاء والدراسات الميدانيّة والبحث الاجتماعيّ، إلى جانب الهاجس الفنيّ في بناء الفيلم بأسلوب واضح، ومضمون صائب». لم يكن الفيلم، إذاً، مجرد محاولة سينمائيّة للتوثيق، بل كان فعلياً محاولة تأسيس عمل فنيّ «ملتزم»، فيما لو أردنا استعادة هذا المصطلح الذي أوشك على الانقراض. ويبدو هذا واضحاً منذ اللحظات الأولى في الشريط، حيث سيجد المشاهد نفسه وكأنه داخل عقل كارل ماركس وهو يشرّح معنى «الاغتراب»، حيث يبدو المسحوقون وكأنهم يعيشون في كوكب منعزل عن ثمار إنتاجهم التي تعبوا طوال أعوام في زراعتها بحيث يراكم الملّاكون رأس المال فيما يحصد الفلاحون الرياح والرمال. مشهد ماركسيّ بامتياز؛ الفارق هو أنّ ما يحدث في الشاشة والواقع لم يكن تمهيداً للثورة، بل هو إحدى نتائج «ثورة آذار» عام 1963، وبعد تطبيق الإصلاح الزراعيّ.

تذكّرنا بعض لقطات الشريط في صحراء قرية «مويلح الجنوبيّ» بالطبيعة «غير الصامتة» التي سنجدها في أعمال يوسف عبدلكي لاحقاً: الجمجمة بعيونها الجوفاء، العظام العارية، علبة السردين الصدئة المفتوحة على الخواء، حذاء مرميّ بإهمال، والنظرات الاتهاميّة القاسية في عيون الجميع. عناصر مرتبطة بالضرورة، وتزيد وطأة الألم الثقيلة حين نراها غارقة في العواصف الرمليّة الجارحة، أو مغروسةً في الأرض المتشقّقة الجافة التي تنتظر معجزة الطوفان. الشيء الوحيد المتحرك في هذه الصورة الساكنة هو الآلة بضجيجها الجنونيّ، وحركتها الرتيبة الصارمة، ودلالاتها السلطويّة التي تتقاطع مع الرحى التي تبرز في لقطات سريعة، حيث يتم سحق الجميع بلا استثناء.

القولبة تطغى على كل الأشياء والأشخاص بحيث نجدهم مقسومين إلى نمطين ثابتين: عناصر السلطة من شرطة ومسؤولين سياسيّين وثقافيّين يكرّرون كليشهيات جامدة بإيقاع مونوتونيّ ذي دلالة خطابيّة عسكريّة جليّة، أما باقي «الشعب» فهم ذوو ملامح جامدة، وصوت مشبع بالانكسار، فيما عيونهم تبرق للحظة بتحديقة قاسية تختصر جميع المعاني. ليس ثمة فارق واضح بين السياسيّ الذي يؤكّد على أنّ «الثورة غيّرت حياة الفلاحين تغييراً فعلياً» وبين الضابط الذي يبرّر القمع لأن «المواطن ليس جاهلاً فحسب، بل يحمل شيئاً من الخبث»، وبين الحديث المضحك للمسؤول الثقافيّ عن سيارة الوحدة الثقافيّة التي ستعرض فيلماً سينمائياً وثائقياً عن «القطر العربي السوري في لقطات جيدة»، فيما تبدو «اللقطات السيئة» المقابلة واضحة على ملامح الفلاحين وهم ينصتون إلى محاضرة عن أهمية السينما في قرية ليس فيها جهاز راديو. تبدو الستارة البيضاء/الشاشة عند عرض الفيلم الدعائيّ وكأنها جهاز تخدير مركزيّ سيُستبدل بالتلفزيون بعد سنوات، بحيث تتأكد السلطة من وصول الرسالة الرسميّة التخديريّة إلى الجميع.

وحده الأستاذ كان العنصر المتبدّل في هذه الصورة الثابتة. كان أقرب إلى صورة السلطة حين كان يُلقي الدرس في الصف كبلاغ عسكريّ، وبثياب أنيقة وذقن حليقة أمام الكاميرا ويركّز على أهميّة التنوّع الغذائيّ في قرية لا تعرف سوى الخبز والشاي طعاماً؛ فيما بدا أكثر عفويّة وتحرراً في غرفته ببيجامته و«شحاطته» التي لم تتوقّف عن الاهتزاز. كانت الكاميرا هي من تتحدث فعلياً، وكانت الشاهد المتنقّل من فضاء مكانيّ إلى آخر، وصولاً إلى الحافلة المتّجهة إلى المدينة، حيث نجد الجميع مسافراً لسبب وحيد، وإن تنوّعت أشكاله، هو الشفاء من «الاستلهاب»، الذي يبدو عند تكرار المفردة، وكأنه هو السبب الحقيقيّ لكل العلل في تلك البلاد.  

الصمت وسيلةً للبوح هو ما تركّز عليه كاميرا عمر أميرلاي، حيث سيحاكم المشاهد بنفسه أقوال الجميع بخاصة المسؤولين الذين يؤكّدون على «نقص وعي» الفلاحين. بينما سنجد فعلياً بأنّ الخطاب العفويّ «غير الخشبيّ» الذي يتفق عليه المسحوقون الأميّون هو المحكمة الحقيقيّة لمزاعم السلطة التي تريد «تصعيد العشائريّة للصالح العام»، بينما يشير الفلاحون بعفويّة إلى وجوب القضاء عليها، وحين يؤكّد المسؤولون النقابيّون بأنّ الإصلاح الزراعيّ يحقّق نتائجه، فيما تلتقط الكاميرا «تغريبة» الفلاحين إثر طردهم من الأراضي التي لا تزال تحت سيطرة الملّاكين.

لا خلاص من هذا الجحيم إلا بطوفان يجرف كلّ شيء. هذا ما ينبئنا به شريط «الحياة اليومية في قرية سوريّة» الذي يتماهى مع صرخات اللوعة في بلد لا حاجة فيه للاستطرادات، إذ إنّ الاختزالات كافية جداً: لا حزب آخر سوى «الحزب»، ولا جبهة سياسية سوى «الجبهة»، ولا نقابة فلاحيّة سوى «الاتحاد». كلّ الصفات الأخرى نافلة وزائدة عن الحاجة. ينتهي الفيلم كما بدأ، بأطفال يذرون الرمال في العيون الجوفاء لحيوان نافق في الصحراء، ثم يجرّون هيكله العظمي على الرمال، بحيث يفتحون طريقاً جديداً ستردمه عاصفة رمليّة أخرى على إيقاع الآلة/الرحى التي لا تتوقف. «هذه بلادنا، وكل متفرّج لا يغمس يده في الطين جبان أو خائن». تبرق الكلمات الأخيرة لمبدعَيْ الفيلم، قبل الإظلام الأخير.  


نُشرت في جريدة «الأخبار» اللبنانيّة 11/2/2015    


Share:

Wednesday, November 18, 2020

صورٌ بلا إطار

 © يوسف عبدلكي
 

 

1

 

ثلاثة شبّانٍ وفتاة. يحتلّون طاولةً تجاور النّافذة المطلّة على الشّارع. ينهمك اثنان منهم في لعب الطاولة. تنشغل الفتاة بمداعبة وشاحها الصوفيّ فيما يشرق وجهُها بابتسامة رضا وهي تتابع رفيقهم الممسك بصحيفةٍ وهو يقرأ مقالةً بحماس تنتفض بفعله خصلات شعره المنسدلة على جبينه.

يأتي النّادل بفناجين القهوة.

نشرة أخبار على التلفزيون. أغنيةٌ تتردّد من إحدى الشّرفات القريبة. أناسٌ يتراكضون في الشّوارع كلّما دوّى صوت انفجار. ذبابٌ يحوم حول بقع الشاي والقهوة الملتصقة بغطاء الطاولة.

فجأةً، يقتحم شابٌّ المشهد. يحاور ذلك الممسك بالصحيفة وهو يعبث بشيءٍ في جيبه.

ينتشل مسدّسًا من معطفه.

وميضٌ خاطف،

وتغرق الصّحيفة في القهوة المنسكبة.

 

2

 

شابّان وفتاة. يحتلّون طاولةً تجاور النّافذة المطلّة على الشّارع. ينهمك الشابّان في لعب الطاولة، تنشغل الفتاة برسم مطرٍ على قصاصةٍ أمامها، وشبحُ ابتسامةٍ على شفتيها.

يأتي النّادل بفناجين القهوة.

نشرة أخبار على التلفزيون. أغنيةٌ تتردّد من إحدى الشّرفات القريبة. أناسٌ يتراكضون في الشّوارع كلّما دوّى صوت انفجار. ذبابٌ يحوم حول بقع الشاي والقهوة الملتصقة بغطاء الطاولة.

فجأةً، يقتحم شابٌّ المشهد. يتلاشى شبح الابتسامة من شفتَيْ الفتاة تاركةً فسحةً للرعب كي يحتلّ وجهها.

يجرّها الشاب من شعرها إلى خارج المقهى.

وميضٌ خاطف،

ويغرق المطر في القهوة المنسكبة.

 

3

 

شابّان. يحتلّان طاولةً تجاور النّافذة المطلّة على الشّارع. ينهمك أحدهما في رمي النّرد فيما ينشغل الآخر بمراقبة العابرين عبر النّافذة.

يأتي النّادل بفنجانَيْ قهوة.

نشرة أخبار على التلفزيون. أناسٌ يتراكضون في الشّوارع كلّما دوّى صوت انفجار. ما من ذباب أو أغنية.

فجأةً، تقتحم سيّارةٌ المشهد.

وميضٌ خاطف،

ويغرق حجر النّرد في بركةِ دماءٍ مختلطةٍ بالقهوة المنسكبة.

 

4

 

شابٌّ وحيد. يحتلّ سريرًا يجاور النّافذة المطلّة على الشّارع.

نشرة أخبار على التّلفزيون. صدًى لموّال بعيد يشوبه طنينٌ في أذنيه. أصوات انفجارات تدوّي في الشّوارع الخاوية. يتلمّس بكفَّيْه فراغًا كانت تحتلّه قدماه. يمسك بسكّين كانت في صحنٍ على طاولةٍ تجاور سريره. يمزّق شرايين معصمه ويتأمّل بصمتٍ شلّال الأحمر الذي يمتدّ بهدوءٍ في بياض السّرير.

يتلاشى صدى الموّال، ويبقى الطّنين.

وميضٌ خاطف،

وتغرق السكّين في بركة الدّماء على السّرير.

 

                                                                                                                                      تشرين الثاني/نوڨمبر 2010

 

* نالت جائزة «مسابقة المعهد الدنماركيّ في دمشق عام 2012»، وتُرجمت إلى الدنماركيّة ونُشرت باللغتين العربيّة والدنماركيّة في كتاب صفاء يوم جديد: أصوات عربيّة شابّة (2012).

 

 


Share: