Friday, January 22, 2021

أن نبقى، لا أن نعود: منيف و«لوعة الغياب»

 


 

بعد أن فرغ عبد الرحمن منيف من روايته الأخيرة «أرض السّواد» (1999)، اتّجه إلى جنس كتابيّ آخر: المقالة. كانت تلك المرحلة أشبه باستراحة بعد الجهد الهائل الذي بذله في كتابة «أرض السّواد» وما سبقها من روايات. كان منيف قد أصدر عام 1991 كتاب «الكاتب والمنفى»، ولكنّ ذلك الكتاب - على أهميّته العظيمة - كان تجميعاً لحواراته، فيما كانت المرحلة الجديدة مختلفة، وكانت أولى ثمارها كتاب «بين الثقافة والسياسة» (1999) الذي بدا أقرب إلى مفتاح للحياة المزدوجة التي عاشها منيف: السياسيّ السابق والروائيّ الحاليّ. ولعلّ هذا المفتاح لم يكن ليظهر لولا انغماس منيف مع سعد الله ونّوس وفيصل درّاج في سلسلة «قضايا وشهادات» التي كانت المعبّر الأكبر والأفضل عن الدور المزدوج للكاتب في الفضاء العام. ومن ثمّ اتّجه منيف إلى زاوية مهملة في الكتابة العربيّة: الكتابة النظريّة في الرواية وعنها. كانت الكتابة النظريّة، وما زالت إلى حدّ كبير، حكراً على النقّاد، إذ يفضّل الكتّاب الإبداعيّون النأي بأنفسهم عن التحدّث عن «مطبخ الكتابة»، والتفرّغ للكتابة الإبداعيّة في ذاتها. لم يطرح منيف نفسه ناقداً، بل فضَّل البقاء على الحافّة، بحيث كانت تجربته النقديّة النظريّة مُستمدَّةً من تجربته الإبداعيّة، كي يمنحنا عام 2001 ثلاثة كتب تبدو أقرب إلى ثلاثيّة متكاملة: «رحلة ضوء»، الكتاب الأبرز الذي طرح فيه منيف رؤيته الشخصيّة للكتابة، وللرواية على الأخص، «ذاكرة للمستقبل» الذي يبدو قريباً من «بين الثقافة والسياسة» مع تركيز أكبر على التاريخ بوصفه «ذاكرة إضافيّة للإنسان» على حدّ تعبيره الأثير، «لوعة الغياب» الذي لا يشبه أيّ كتابٍ من كتب منيف، ولا أحسب أنّ له مثيلاً في العربيّة، حديثاً على الأقل.

ينطلق كتاب «لوعة الغياب» من الموت، ثيمةً وتأسيساً لكتابة تنوس بين النّقد والذاكرة، بين الموضوعيّ والذاتيّ. ينطلق الكتاب من عنوانه البديع، إذ يشير منيف إلى أنّه استعار الكلمة الأولى من ديوان «لوعة الشّمس» لجبرا إبراهيم جبرا، فيما استعار الكلمة الثانية من القاموس البدويّ، حيث يستخدم البدو كلمة «الغياب» لا بمعنى التّلاشي، بل للدلالة على الغروب الذي سيتبعه شروق حتماً. الغياب هنا، وإنْ كان موتاً، غياب موقّت تُخلَق منه حياة جديدة، حين يشدّد منيف على أهميّة «المراكمة الإيجابيّة»، أي استثمار الموت بهدف قراءة موضوعيّة لتجربة من رحلوا كي نؤسّس عليها بناءً جديداً للجيل اللاحق؛ ذاكرة تتراكم لتبني، لا أن تكون محض فرصة للرثاء العابر الذي ينتهي بانتهاء مناسبته. وبذا لا يبتعد منيف من الفكرة الجوهريّة التي تقوم عليها أعماله كلّها تقريباً: سباق التّتابع، حيث يُسلِّم كلّ جيل أو كلّ شخصيّة اللواءَ للجيل أو الشخصيّة اللاحقة، كي تستمرّ دورة الحياة حتّى لو تخلَّلها موت عابر. ينتقي منيف هنا 26 شخصيّة أدبيّة وثقافيّة ارتبطت بالموت، إما حرفياً حين رحلت تلك الشخصيّات فكتبَ عنها منيف دراسات مهمّة، أو مجازاً في الاستثناء الوحيد الذي مثَّله حليم بركات، حيث كان عمله لا شخصيّته، هو المرتبط بالموت، في رواية/سيرة «طائر الحوم» (أما المقال السريع عن الذكرى التسعين لميلاد نجيب محفوظ فأُضيف لاحقاً). انتقاء الشخصيّات مرتبطٌ بذائقة منيف، إذ يشير إلى هذا صراحةً في مقدّمته للكتاب. سيفترض وجود الذائقة اختلافاً ضرورياً حيال مدى أهميّة أحكام منيف التي أسبغها على هؤلاء الكتّاب، إذ قد نتّفق أو نختلف بشأن الاحتفاء المبالغ به بشأن نزار قبّاني مثلاً، أو بشأن التّفاوت في عدد الصفحات المكرَّسة لكلّ شخصيّة من الشخصيّات. لا حلّ بشأن معضلة نزار، ولكنّ المعضلة الثانية مرتبطة برحيل منيف نفسه، إذ أضاف الناشر 12 أو 13 شخصيّة لم تكن في الطبعة الأصليّة للكتاب في حياة منيف (2001)، بحيث بدا الفارق واضحاً بين الرثائيّات السريعة لتلك الشخصيّات، وبين الدراسات العميقة المكرَّسة للشخصيّات الأربع عشرة الأولى.

ولكن فلنبق في ما نحن متّفقون عليه، أي الدراسات الأربع عشرة الأولى في الكتاب، حيث يمنحنا منيف دراسات عميقة ومهمة وفريدة تنتقل بسلاسة بين الثقافة، والأدب، والنقد، والذاكرة، والتاريخ. ولعلّ أهمّ دراستين في الكتاب هما الدراستان اللتان كرّسهما منيف لسعد الله ونّوس ولغائب طعمة فرمان، يمزج منيف فيهما ببراعة جميلة بين الذاتي والموضوعيّ، ليقدّم لنا جنساً أدبياً غير معترف فيه عربياً بكل أسف، إذ تندرج القراءات النّقديّة العربيّة بين تصنيفين  منفصلين بينهما هوّة كبيرة لا سبيل إلى رتقها: كتابة نظريّة جافّة منفّرة كما في الغالب الأعم من القراءات النقدّية، أو كتابة ذاتيّة تبدأ وتنتهي بالعلاقة الشخصيّة التي تربط الكاتب بالشخصيّة التي يكتب عنها من دون أدنى مسافة موضوعيّة، بحيث تتحوّل إلى احتفاء مجانيّ لا قيمة له بعد انتهاء مناسبته. يكتب منيف انطلاقاً من تجربته الشخصيّة، ولكنّه يوسّع آفاق تلك الكتابة لتسليط أضواء مهمّة على الجوانب المهملة من حيوات الشخصيّات موضوع الدراسة. تتحوّل رسائل غائب طعمة فرمان الشخصيّة إلى وثائق فريدة لنفهم شخصيّة فرمان وأعماله أكثر، على الأخص من ناحية التأثير المتبادل بين فرمان والمنفى الطويل والبعيد الذي أقصاه عن بغداد. وتتحوّل تجربة منيف الشخصيّة في مشاهدة مسرحيّة ونّوس «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» إلى نقطة انطلاق يُعمِّق فيها منيف دراسة علاقة ونّوس بالتّاريخ وبالسُّلطة، مع تركيز خاص على مسرحيّة «منمنمات تاريخيّة» وكتاب «عن الذاكرة والموت». وتتحوّل ذكريات منيف الشخصيّة مع جبرا إلى تحليلٍ دقيقٍ لبغداد الخمسينيّات بكلّ تيّاراتها السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة. على أن ذلك التّلاقي البديع بين الذاتيّ والموضوعيّ يصل إلى أقصى درجات اللوعة حين يتحدّث منيف عن حسين مروّة، لينطلق من سؤال مروّة العابر عن شخصيّة متعب الهذّال في رواية «التّيه» (الجزء الأول من خماسيّة «مدن الملح») بشأن الفارق بين العودة والبقاء، ليتحوّل مروّة إلى تجسُّد آخر من تجسّدات متعب الهذّال، أو العكس بالعكس، ويوغل منيف في تشريح معنى القتل ومعنى الحرب الأهليّة ومعنى غسيل العقول الذي يُنتج قتلةً بمقابل تنوير العقول الذي ينتج أجيالاً جديدة. ولكن يبقى سؤال مروّة ومنيف صادحاً: هل المهم أن نعود أم أن نبقى؟ لا نعلم النّتاج الذي كان منيف سيقدّمه لنا لو عاش هذه السنوات السبع عشرة التي تفصلنا اليوم عن رحيله. كان قد باح لمروان قصّاب باشي بأنّه لن يعاود كتابة رواية طويلة بعد «أرض السّواد»، ولكنّه قال العبارة ذاتها بعد «مدن الملح». ليس هذا مهماً، ولا فائدة من التحسّر. منيف لن يعود، ولكنّه سيبقى. هذا هو المهم.

 

 


Share:

Friday, January 15, 2021

ألكسندر بوشكن: روسيا قبل قرنين

 


 

 

 

لو سُئل القارئ غير الروسيّ عن أعظم كاتب روسيّ سيكون الخيار محصوراً بين تولستوي ودستوييفسكي، وقد نجد مهرطقين قلائل يذكرون تشيخوف، ومجانين نادرين يحتفون بنيكولاي غوغُل. ولكنّ الغالبية العظمى من الروس لن يتردّدوا في إجابتهم الوحيدة: ألكسندر بوشكن. ليس الأمر مرتبطاً بشحّ أعمال بوشكن بالرغم من سنوات عمره القليلة، إذ يصل عدد مجلّدات بعض طبعات أعماله الكاملة بالروسيّة إلى 20 مجلداً، بل المشكلة في شحّ الترجمات لا في العربيّة وحسب (وإنْ كانت المقارنات مخجلة مع غيرها من اللغات)، بل في اللغات الأوروبيّة الأساسيّة أيضاً. ولو أضفنا تردّد المترجمين أمام صعوبة ترجمة الشّعر، وهو مجال بوشكن الأكبر، سنكون أمام حالة فريدة في الأدب العالميّ، حين تكون أعمال أعظم كاتب في لغةٍ من اللغات هي الأعمال الأقلّ وجوداً بالمقارنة مع غيره. لا يتوفّر عربياً من أعمال بوشكن إلا مختارات نثريّة، وبعض الأعمال المسرحيّة القصيرة، مع استثناء فاضح لروايته الشعريّة «يفغيني أونيغن»، ولملاحمه الشعريّة، وحتّى لأشعاره الأقصر التي لا توجد إلا بترجمات عن لغات وسيطة مع استثناء أو اثنين. ولذا ستكون أيّة ترجمة جديدة من الأصل الروسيّ لأيّ عمل من أعمال بوشكن فرصة مهمة لنا كي نقترب أكثر من الشاعر الروسيّ الأعظم الذي أسَّس للأدب الروسيّ قبل مئتي عام. ومن هنا تنبع أهميّة كتاب «ألكسندر بوشكن: يوميات ومذكّرات» الذي صدر أخيراً بترجمة محمد خميس عن دار «الرافدين»، إذ يقدّم لنا مختارات من يوميّات بوشكن في العقدين الممتدّين من عام 1815 إلى عام 1835.

لن يجد القارئ تفاصيل كثيرة عن المشهد الأدبيّ الروسيّ، إذ لا يرد اسم غوغُل إلا مرتين أو ثلاثاً، واسما جوكوفسكي وكارامزن بضع مرات. وهذا ليس غريباً، إذ كان بوشكن هو المؤسِّس الحقيقيّ للأدب الروسيّ، وكان كلُّ من قبله مراحل تمهيديّة. نلاحظ أنّ إشاراته إلى جوكوفسكي هي إشارات الصديق للصديق أكثر من كونها إشارات الشاعر للشاعر؛ أما الاحتفاء بكارامزن فكان احتفاءً بالمؤرّخ لا بالشاعر. وحده غوغُل يحظى بملاحظات نقديّة احتفائيّة تخصّ الأدب، وكأنّنا أمام رؤيا بوشكنيّة ثاقبة ستُحدِّد لنا خارطة الأدب الروسيّ بعده. يغيب ليرمونتوف عن اللوحة البوشكنيّة، ولكنّه يصغر بوشكن بخمسة عشر عاماً، ولم تكن عبقريّته قد فرضت نفسها عام 1835. على أنّنا سنجد تفاصيل أدبيّة تخص بوشكن نفسه ابتداءً بقصاصاته النثريّة وملاحظاته النقديّة الأولى حين كان طالباً في الليسيه، وليس انتهاءً بنثره البديع في وصف رحلاته المتعدّدة في سنوات المنفى وما بعدها التي كنّا نتمنّى لو طالت أكثر لنغوص في توصيفه المدهش للطبيعة الذي سيورثه لتولستوي وتورغنيف اللذين أوصلاه إلى ذروة عصيّة على البلوغ. بموازاة الطبيعة سنجد البشر، حيث يدوّن بوشكن تأمّلاته أثناء انتشار الكوليرا في روسيا عام 1831. يبدو بوشكن هنا وكأنّه يدوّن أيامنا نحن بعد قرنين حيث الناس هم الناس في تذمّراتهم واعتراضاتهم على الحجر الصحيّ، وإنْ اختلف نوع الجائحة. سيلفتنا التّطابق مع تقلّب دورات الأيام، وستصدمنا آراء بوشكن العنصريّة حيال الشركس مثلاً، كما سيستوقفنا التّناقض العجيب في أفكاره الثوريّة بين الداخل والخارج، بين اليونان التي يتوق أن تثور وتنتصر ثورتها ضد الأتراك، فيما يبدو منعدم الحماس تقريباً في روسيا، على الأخص بعد إعدام رفاقه الديسمبريّين عام 1826، بحيث تتعاظم حيرتنا مع تعاظم غموض مواقفه من القيصر، ومن السياسات الداخليّة الروسيّة.

لعلّ منبع الغموض هو خوف بوشكن من وقوع دفاتره في الأيدي الخاطئة في ظلّ الرقابة القاسية التي تُطوِّق الجميع، أياً يكن مدى أهميّتهم السياسيّة أو الأدبيّة، حيث لا عصمة إلا للقيصر. ما يهمّنا هنا هو التوصيفات التفصيليّة التي يمنحنا بوشكن إياها عن كواليس القصور والحفلات والطبقة الأرستقراطيّة. هذه التأمّلات مهمّة لا لكونها بتدوين شاهد عيان وحسب، بل أيضاً لأنّ شاهد العيان هذا هو الأديب الروسيّ الوحيد الذي تمتّع بهذه المسافة القريبة من القيصر وحاشيته. سنقرأ عن الدسائس، وعن العفن المستشري في أوساط الساسة، وعن تقلّبات الأيام والموازين بتقلّبات مزاج القيصر، وعن الأدوار الخفيّة للنساء في صنع السياسات. يُبهجنا بوشكن وكأنّه يعتذر عن غموض مواقفه، ليقدّم لنا صورةً نادرةً عن تلك السنوات البعيدة، ويقول بشيءٍ من السخرية: «سأصف كلّ شيء بالتفصيل، ولمصلحة مستقبل والتر سكوت». لم يكن سكوت سيكترث لروسيا ولتاريخها في رواياته، ولكنّ بوشكن يدرك أنّ موقعه المميَّز والفرصة النادرة التي أُتيحت له في رؤية ما لن يعرفه غيره ستنفع كثيرين آخرين غير سكوت في إعادة رسم صورة روسيا النصف الأول من القرن التاسع عشر. ولا بدّ هنا من الإشادة بحواشي المترجم الكثيرة التي تُعرّفنا بمتاهة مُدوِّخة من الأسماء الروسيّة التي لا نعرف عنها شيئاً، والتي ربّما سنعرفها أكثر فأكثر مع تعاقب الترجمات عن الروسيّة التي نشطت في العامين الماضين بسرعة مخيفة أحياناً.

لا نلمح أدنى خوف لدى بوشكن حيال مستقبله، وكأنه كان يظنّ أن العمر سيمتد به طويلاً، بالرغم من لحظات طيشه الكثيرة التي كادت تودي به. نقرأ سخريته في 9 نيسان (أبريل) عام 1821 من ضابط فرنسيّ سابق تهرّب من مبارزة معه، فنحسّ بالألم لأنّ مبارزةً أخرى ستحدث بعد 16 عاماً مع ضابط آخر لم يهرب، وسينجح في قتل بوشكن قبل أن يبلغ الأربعين. ليس الخلود بالسنوات الطويلة حتماً. هذا ما يدركه بوشكن رغم طيشه، ويُدوّنه لنا في نصّ جميل هو «حوار تخيُّليّ مع القيصر ألكسندر الأول»، حيث يبدو بوشكن دليلاً نقدياً لأعماله، حين يعاتب القيصر على الاهتمام بقصائد عابرة بالرغم من جمالها، وتناسي أعماله الأهم: «رُسلان ولودميلا»، «أسير القوقاز»، «نافورة باختشيساراي»، وحتماً «يفغيني أونيغن». أطلق بوشكن نداءه حيال أعظم أعماله قبل قرنين، ولعلّنا نراها بالعربيّة قريباً، كيلا نكرّر خطأ القيصر.

 

Share: