Friday, August 14, 2020

أحمد مراد: اللعب بعجينة الكتابة






شكّلت رواية أحمد مراد «الفيل الأزرق» (2012) مفاجأةً حين وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة «بوكر العربيّة» عام 2014. كانت الرواية (وما تزال) أجرأ خيار لمحكّمي الجائزة وللقائمين عليها. فالرواية تنتمي إلى الأدب غير المعترف به في «جنّة» الجوائز والنّقد الأكاديميّ: رواية «بست سيلر» من «أدب الجانْر» الموجَّه إلى شرائح قرّاء محدَّدة لهم بوصلتهم الخاصة التي لا تتقاطع مع بوصلة الأدب السائد إلا نادراً. ولكنّ الرواية محض خيار جريء لا أكثر، إذ لا تمثّل أهميّة كبرى حتّى ضمن تيّار أدب الجانر العربيّ، بالرغم من انتشارها الهائل الذي جعل من كاتبها أحد أشهر الروائيّين المصريّين، بل العرب بالمطلق الآن. ولكنْ يبدو أنّ مراد حاول طوال سنوات كسر الخانة التي حبسته فيها الرواية، ومضى يشقّ طريقه في مسار روائيّ آخر، أصدر فيه ثلاث روايات، وصولاً إلى روايته الجديدة «لوكاندة بير الوطاويط» التي صدرت أخيراً عن دار الشروق.
أثارت الرواية الجديدة جدلاً آخر مختلفاً هذه المرة حين قُرصنت إلكترونياً لتثير عاصفة بشأن حقوق الملكيّة الفكريّة، وعاصفة أقل تتّصل بردود الأفعال التي حظيت بها الرواية، من النسف التام لكونها رواية «بست سيلر مراديّة أخرى»، إلى الحماس المبالغ فيه من قرّاء مراد المخلصين، وهم شريحة كبيرة لا يمكن لنا تجاهلها بحال من الأحوال. لستُ من المتابعين الدؤوبين لتجربة مراد الروائيّة، ولذا شكّلتْ روايته الجديدة مفاجأة صاعقة بالنّسبة إليّ إذ ما من مجال للمقارنة بينها وبين «الفيل الأزرق». بل لا ميالغة لو قلنا إنّهما تبدوان لكاتبيْن مختلفَيْن للوهلة الأولى، لمصلحة الرواية الجديدة بطبيعة الحال. رواية متقنة بدرجة كبيرة بدا فيها مراد أهدأ وأبرع في إدراكه لأدواته وحدودها، وللكتابة في ذاتها، إذ تعامل معها بوصفها لعبة ممتعة لا حدود لها، ممتعة لكاتبها قبل أن تكون ممتعة لغيره. بدا مراد محترفاً بدرجة عالية بالمقارنة مع مراد الهاوي قبل ثماني سنوات. وحتّى لو تجاهلنا مقارنته بروايته تلك، سنجد أنّ «لوكاندة بير الوطاويط» إحدى أجمل الروايات المصريّة الصادرة في السنوات الأخيرة، ولا تكاد تنافسها إلا روايات تُحصى على أصابع اليد الواحدة. رواية تلعب بالتاريخ وبالخيال وبالهذيانات وبالبارانويا وبالجنس وبالأزمنة وبالطبقات على هواها، لتقدّم لنا شخصيّة سليمان أفندي السيوفيّ، مصوّر الموتى السّائر في درب النبوّة والوحي؛ شخصيّة ستحفر مكاناً كبيراً لها بوصفها إحدى أجمل الشخصيّات الروائيّة في مشهد روائيّ لا ينشغل برسم الشخصيّات ولا يكترث بصنعة الخلق في الكتابة اكتراثاً كبيراً في ظل انشغال الروائيّين بصرعات الأدب التي تولد ميتة، وبكتالوغات الكتابة بالمسطرة.
سليمان أفندي هو الرواية. فاليوميات يومياته، والقاهرة قاهرته، والوحي وحيه، والنّساء نساؤه، واللغة لغته، والموتى موتاه. وفي ظل هذا التّطابق التام بين الرواية وبين الراوي ستعتمد قراءتنا للرواية على مدى تقبُّلنا لسليمان نفسه؛ إنْ أحببناه أحببنا الرواية، وإنْ نفرنا منه نفرنا من الرواية، وإنْ أسأنا فهمه (وهذا هو الأخطر) سنسيء فهم الرواية. لنا أن نقرأها قصةً بوليسيّةً تنوس بين الرعب والتّشويق، ولنا أن نقرأها دوامة بارانويا رائعة، ولنا أن نقرأها رواية تاريخيّة تنطلق من «التاريخ البديل» وسؤاله الأثير: «ماذا لو؟» ولا تنتهي به. غير أنّ كلّ قراءة من هذه القراءات ستمسي قراءة قاصرة إنْ أفردناها من بين القراءات الأخرى. نقطة قوة الرواية ونقطة ضعفها في آن هي أنّها مجموعة خيوط متشابكة تبدأ وتنتهي بسليمان السيوفي، وبطريقة تعامل مراد مع سليمان، وبمدى إخفاء مراد لصنعة الكتابة بحيث يخرج من المشهد تماماً ويتركه لصاحبه فقط. نجح مراد في هذا نجاحاً كبيراً، ولكنّه وقع في الفصول/اليوميات الأخيرة في فخ فصل الخيوط المتشابكة، فركّز حيناً على الجرائم، وفَصَلَ حيناً بين سليمان وبين وحيه، وأفرد حيناً آخر حيّزاً مبالغاً فيه للتفاصيل التاريخيّة، بحيث انتهت الرواية بثلاثة خيوط منفردة باهتة، فيما كان يُفترَض أن تكون خيطاً ثلاثياً متضافراً يتضاعف جماله بتضاعف تعقيده. ولكنّ اللغة المشغولة ببراعة بقيت العنصر الأجمل حتّى بعد تفكُّك الخيوط، بل لنا أن نرى أنّ نقطة التّجريب الأكبر كانت اللغة التي تضبط إيقاع السّرد الجنونيّ، وتبدو مرآة وبوصلة لتقلّبات سليمان الذي يبدو للوهلة الأولى راوياً غير موثوق به، فيما هو في حقيقة الأمر أكبر من هذا. إنّه نبيُّ لغةٍ في المقام الأول: يستنطق الموتى باللغة، ويقاوم الميلانخوليا باللغة، ويقارع عدوّه الهجين باللغة، ويضاجع باللغة، ويقتل باللغة، ويعقل باللغة ويُجنّ باللغة. اللغة لدى سليمان منبع خلق وكينونة قبل أن تكون وسيلة للكلام أو البوح أو الألم أو استعادة أحداث الماضي.   
نقرأ في قصة لكافكا بعنوان «الحقيقة بشأن سانتشو بانثا» فكرةً مدهشةً، وهي أنّ كيخوته ليس إلا شيطان وحي سانتشو الذي أطلق العنان لذلك الشيطان بإرادته ليعيش مغامراته. رواية كيخوته تبعاً لقراءة كافكا هنا تدور داخل ذهن سانتشو واقعاً وخيالاً، إنْ كان للواقع وللخيال معنى في دنيا كيخوته. وكذا الأمر في «لوكاندة بير الوطاويط» (أو ما يُفترَض أن تكون عليه الرواية ربما): جميع تفاصيل الرواية وخيوطها النبويّة والتاريخيّة والجنونيّة والإيروتيكيّة دوّامةٌ من دوّامات ذهن سليمان السيوفي. لا واقع ولا خيال، لا تاريخ ولا حاضر؛ بل لعلّنا نحن أيضاً تفاصيل ضمن خيالات سليمان المدهشة، خلقٌ آخر لهذا النبيّ الذي اختزل العالم كلّه في غرفته الفوضويّة وفي ذهنه المرعب، بحيث بات كلّ ما ومَنْ لا يوجد في ذهنه غير موجود، وكأنّه لم يكن، حتّى لو شهدتْ له أرقام وأحداث. ثمة نبيٌّ شقَّ البحر، وأنبياء أحيوا الموتى، وأنبياء أسبغوا البركة في الطعام والشراب، بينما نبوّة سليمان من جنس آخر: نبوّة ذهنيّة علقت في مرحلة الوحي ولم تغادره؛ وحي جنونيّ تتداخل فيه الأزمنة والأمكنة، والموت والحياة، والدنيا والآخرة في متاهة لغويّة آسرة. تلك هي «رسالة» سليمان أفندي السيوفي النبويّة في غرفته الرثة، ويومياته المبعثرة الناقصة التي نقلتها لنا رواية «لوكاندة بير الوطاويط» التي اختلف حولها القرّاء وسيختلفون. ليست محض هذيان كما رآها البعض إذ هي أبهى من هذا بكثير؛ وليست «تحفة» كما رآها قرّاء متحمّسون، لا لعلّة فيها وحسب بل لأنّ هذا الزمن ليس زمن تحف أدبيّة، أو على الأقل لا بدّ للتحفة من معالجة أبطأ وأهدأ وأعمق؛ وهي ليست «منزلة بين المنزلتين» أيضاً. إنّها رواية جميلة معقّدة زلقة كفخّ أزليّ؛ لا عجب أنّ خيوطها قد أفلتت حتّى من كاتبها في نهاية المطاف.     


Share:

Friday, August 7, 2020

عمر خليفة: كل شيء ولا شيء عن فلسطين






ما الذي نتكلّم عنه  حين نتكلّم عن فلسطين؟ كل شيء ولا شيء. هذا ما ينتابنا دوماً حين نفكّر بالكلام أو بالكتابة عن فلسطين. سادت العادة أن تكون فلسطين إما فوق الكلام أو تحت الكلام؛ إما أن نبالغ في الحديث عنها فتصبح عصيّة على المقارنة وعلى التعبير، أو أن نتجاهلها وكأنّها لم تكن، فيظنّ دافنوها أنّهم قد تخلّصوا منها حين سكتوا عنها. هل هي الأرقام والإحصائيّات؟ أم البشر والحجر؟ أم الماضي والحاضر؟ أم المستقبل الذي لا براء منه؟ أم هي بلاد كأيّة بلاد أخرى لا بدّ أن تبقى ضمن مستوى الكلام بلا إفراط وبلا تفريط؟ في أحد الأيام سألتُ صديقةً فلسطينيّة عن القدس: هل هي بجمال ما يُكتَب عنها أم أنّ قداستها تُعمينا عمّا سواها؟ هل نعبّر عنها بالوعي أم اللاوعي؟ كان جوابها أنّ القدس مدينة كغيرها، بصخبها وفوضاها وتلوّثها، وبهدوئها وتنظيمها وصفائها، ولكن ثمّة سر غريب فيها عجزت صديقتي عن إدراكه، وعجزتُ أنا عن إدراكه طبعاً، ولكنّي فهمته بالمقارنة مع علاقتي بالشام. مدينة كغيرها من المدن، وبلاد كغيرها من البلاد، لكنْ ثمّة ما هو أكبر. أمر يعجز عنه الكلام ولذا نخفق دوماً في التعبير عنه فنجعلها كل شيء ولا شيء.
هذا عن فلسطين، عن البلاد. ولكن ماذا عن ناسها؟ ماذا عن الفلسطينيّين؟ منهم مَنْ ولد وعاش وسيموت داخلها، ومنهم من ولد وعاش وسيموت خارجها، وبتنا نقرأ قصصهم الآن. ما معنى أن تكون فلسطينياً وأنت لا تمتلك من فلسطينيّتك إلا الهويّة، إلا تاريخ آبائك وأجدادك فيما أنت نصف فلسطينيّ في أفضل الأحوال؟ هل يكفي تاريخك ليؤكّد حاضرك، أم أنّ المياه قد جرت تحت جسور الزمن وانتهى الأمر. هذا ما يتناوله عمر خليفة في روايته الأولى «قابض الرمل» (دار الأهليّة). يتناول مسألة أن تكون فلسطينياً من الجيل الثالث؛ أن تكون حفيداً للفلسطينيّين المنكوبين فيما أنت في واقع الحال ابنٌ لبلاد أخرى شكَّلَتْكَ وشكَّلْتَها. يحاول خليفة أن يكتب عن هذا الجيل الثالث من خلال شريحة فلسطينيّين ثلاثينيّين وثلاثينيّات من الطبقة الوسطى، ولدوا ودرسوا وعملوا فيما فلسطين ليست أكثر من نبأ في التلفزيون ومواقع التواصل. هم بمنجاة من لعنات الذاكرة كما يظنّون، ولكنْ كان يكفي حدثٌ صغير عابر كي ينكأ جراحاً كانت خفيّة عليهم قبل أن تكون خفيّة على غيرهم. وكأنّ قَدَر الفلسطينيّين أن يبقوا فلسطينيّين حتّى حين يظنّون أنّهم أبناء جيل لم يكتوِ بنار الذاكرة.
تتلاقى مصائر أربعة صحفيّين حين يُكلَّفون بكتابة تحقيق عن ذاكرة عجوز فلسطينيّ عاش النّكبة ويأبى الحديث عنها. تتّسع دائرة المصائر شيئاً فشيئاً في دوّامة تبتلعهم وتبتلع شاباً آخر هو حفيد ذلك العجوز، بحيث تلاقت الأزمنة وتداخلت وتصادمت ليجرف الماضي كلّ شيء. فالنّكبة لم تكن بالنّسبة إلى هؤلاء الشّباب إلا حدثاً تاريخياً يمسّهم مساً طفيفاً إذ صودف أنّهم فلسطينيّون. بل كانوا يظنّون أن فلسطين أيضاً ليست إلا حدثاً في الماضي لا يمتّ بصلة لحاضرهم الغارق في محاولات العيش والحب والجنس والزواج والعمل. لم تكن إلا حدثاً بعيداً قد يمرّون به في فيلم وثائقيّ أو قد تتقاطع مع حيواتهم في مفارقات ساخرة، كما هي الحال مع الدبكة والهويّة واللهجة. تلك محض أقنعة لماضٍ لا يعنيهم، ولكنّ تلك الصدفة أمست لعنةً مزّقت الأقنعة كلّها ليدركوا أنّ تلك النّكبة التي رسمت تاريخ أجدادهم ولآبائهم سترسم مصائرهم هم أيضاً. وتتضاعف المفارقة حين نجد أنّ النكبة مسكوت عنها حتى لدى ذاكرة العجوز، ولكنّ ذلك المسكوت عنه والخفيّ والمُتجاهَل سيتفجّر لتطال شظاياه الجميع على اختلاف أجيالهم. يلعب عمر خليفة في منطقة حرجة ودقيقة للغاية، إذ يحاول تدوين تلك المفارقات الساخرة من دون أن يغرق أو يُغرِق شخوصه في لعنة الماضي. لا يتعامل خليفة مع شخوصه بحبٍّ أو بتقديس بل يسخر منهم كلّهم، ولكنّ تلك السخرية لن تكون جارحةً برغم قسوتها، إذ هي معجونةٌ بفهم الذات وفهم الشّخوص الأخرى، فالكاتب مثل شخوصه ضحيّة تلك المفارقات التي يدوّنها، وضحيّة صمت ذلك العجوز الذي يصمت فيجرح ويحكي فيجرح.
تتضاعف صعوبة الكتابة حين أراد خليفة الكتابة عن فلسطين وعن الفلسطينيّين مع إبقاء النّكبة خلفيّةً للأحداث. ليس التّحقيق الصحفيّ مركز الأحداث في نهاية المطاف، بل هم الشّباب الفلسطينيّون وحيواتهم المتقاطعة، في تشابهاتها وتبايناتها. نقرأ عنهم وعن تفاصيل حيواتهم قبل التّحقيق وبعده؛ فالجنس والأخطاء والبوح والصمت والقرب والبعد تفاصيل مهمة مثلها مثل جراح الذاكرة. ولكنّ هذا محض قناع آخر، إذ كان يُفترَض بالصحفيّين الأربعة وبالحفيد أن يعودوا إلى تفاصيلهم القديمة حالما أخفقَ التّحقيق، ولكنّهم وُشموا بذاكرة الأجداد، وما عاد أمامهم مفرّ من الإيغال في نكء تلك الجراح أكثر فأكثر، وفي مماهاة جراحهم الشخصيّة مع جرحهم الجمعيّ. ندرك حين نصل إلى الثلث الأخير من الرواية بانّ الثلثين الأوَّلَيْن ليسا إلا تمهيداً لما سيحدث. وكأنّ هذا التقسيم مرآة لحيوات الشّخوص أيضاً، فكلُّ تفاصيلهم قبل التّحقيق ليست إلا تمهيداً لما سيجدث لهم ومعهم أيضاً، ولذا كان الثّلثان بطيئين إلى درجة الملل أحياناً. ولكنّ خليفة يتقن نصب الفخاخ، ويبرع في كتابة المواقف المركّبة. فالبراعة، كلُّ البراعة، هي اللعب على الخيط الخفيّ بين سعي الشّخوص إلى اكتشاف سر صمت العجوز وبين سعيهم إلى اكتشاف ذواتهم؛ بين الانتقام الطائش من العجوز وبين الفضول الحارق لإتمام نقص الذاكرة. البراعة هي في اللعب على المعنى المزدوج لـ «التّداعي»: تداعي الحياة وتداعي الذاكرة. ندرك متأخرين، مثلنا مثل شخوص الرواية، بأنّ الذاكرة هي الحياة، حتّى لو كنّا أبناء جيل ثالث أو رابع أو خامس.
لا يمنح خليفة أسماء لشخوص الرواية، بل تمسي صفاتهم هويّة لهم. ولكنْ أدّى هذا التّجريد إلى طمس الفوارق بين الشّخوص أحياناً، وإلى تركيز متفاوت في رسم ملامحهم، بحيث كاد بعضهم يخرج من الصورة تماماً حين تحوَّلت دائرة الضوء إلى غيره. ربما كانت الرواية تحتمل تفصيلاً أكبر، ومعالجة أعمق لشخصيَّتَيْ القائد والمترجمة، مثلاً، بالمقارنة مع المعالجة الرهيفة لشخصيّتَيْ الخائنة والحفيد. ولكنّنا أمام رواية أولى مبشّرة للغاية، وأمام كاتب يتقن التقاط التفاصيل المركّبة التي تصوغ هويّاتنا وشخصيّاتنا بوصفنا بشراً عالقين في ذاكرتنا وذاكرة آبائنا؛ كاتب يرى الأقنعة التي نرتديها كلّنا، فيمزّقها بجرأة لنفهم أنفسنا أكثر، ونتلمّس هشاشتنا أكثر.         

Share: