Saturday, October 24, 2020

حكايات القيوط

 


هوميشوما (يمامة الحِداد) 

 

في البدء كان شعب الحيوان قبل أن يوجد أيُّ بشر.

كان ذئب القيوط الحيوانَ الأهمَّ إذ قدَّمَ، بعد تكليفه من الروح الأكبر، الإسهامَ الأكبرَ، من بين الحيوانات الأخرى، في جعل العالم مكاناً جديراً بالعيش. ولكنْ مرّت أيّام لم يكن فيها القيوط مُكلَّفاً بأعمال من الروح الأكبر. فسلّى نفسه عبر إحداث شغبٍ وفوضى. بل إنّه كان ضحيّة شغبه مراراً، ما أثار ضحك الجميع الجميع ما عدا الخُلدة. كانت الخُلدة زوجة القيوط.

يُطلق شعبي اسم سن-كا-لپ (Sin-ka-lip) على القيوط، ومعنى الاسم «المُقلِّد». إذ كان يبتهج حينما يتهكّم من الآخرين أو يُقلِّدهم، أو حين يكتفي بمجرّد المحاولة، وكان يُسمّى أحياناً «المحتال»، لأنّه كان بارعاً في الحيل والمكائد.

الاسم الذي نطلقه على شعب الحيوان هو تشپ-تشاپ-تيكولك (Chip-chap-tiqulk) (حرف «ك» الأخير بالكاد يُلفَظ)، ونستخدم الاسم نفسه للحكايات التي تُروى عن شعب الحيوان وعن زمن الأساطير. بالنّسبة إلى الأجيال الأصغر سناً، تبدو التشپ-تشاپ-تيكولك حكايات غير معقولة؛ وهذه إحدى نتائج مدارس البِيض. ولكن بالنّسبة إلى الهنود الأكبر سناً، ليست حكايات التشپ-تشاپ-تيكولك غير معقولة أبداً؛ إذ إنّها توصيفات لما حدث فعلاً حينما كان العالم ما يزال طفلاً.

 

الروح الأكبر يُسمّي شعب الحيوان

 

نادى ها-آه إيل-مي-وهين (الروح الأكبر العظيم) شعب الحيوان ليجتمعوا. جاؤوا من أنحاء العالم كلّها. ومن ثمّ أخبرهم الروح الأكبر أنّ ثمّة تغييراً سيحدث، أنّ جنساً جديداً هم البشر سيعيشون في الأرض.

قال الروح الأكبر: «لا بدّ أن يكون لكم كلّكم يا تشپ-تشاپ-تيكولك شعب الحيوان أسماء. بعضكم يحمل أسماء، وبعضكم لم ينلها بعد. ولكن بحلول غدٍ سيكون للجميع أسماء تحملونها وتحملها ذرّيّتكم إلى آخر الزّمان. في الصّباح، حينما يظهر أوّل ضوء في النّهار، تعالوا إلى بيتي واختاروا أسماءكم. يمكن لأوّل الواصلين أن يختار الاسم الذي يشاء أو تشاء. ويمكن للتّالي اختيار أيّ اسم آخر. وهكذا إلى أن تُؤخَذ الأسماء كلّها. وسأُكلِّف كلّ واحدٍ منكم بعمل.»

أثار هذا القول حماس الحيوانات. رغب كلٌّ منهم باسمٍ جليلٍ، وبسُلطةٍ تخوّله حُكم قبيلةٍ من القبائل أو بقعة من بقاع العالم، وعَزَمَ كلٌّ منهم على الاستيقاظ باكراً وعلى الإسراع إلى بيت الروح الأكبر.

تبجَّح سن-كا-لپ القيوط بأنّه سيسبق الجميع. تجوَّل بين الحيوانات وأخبرهم أنّه سيكون أوّل الواصلين. لم يكن القيوط يحبّ اسمه؛ وأراد اسماً جديداً. لم يكن ثمّة مَنْ يحترم اسمه، المُقلِّد، ولكنّه كان يليق به. كان يُسمّى سن-كا-لپ لأنّه يحبّ تقليد الآخرين. كان يظنّ أنّ بمقدوره فعلُ كلّ ما يفعله الآخرون، وادّعى معرفة كلّ شيء. يطرح سؤالاً، وحين يأتيه الرد يندفع للقول:

- «أعرف هذا أصلاً. لا أحتاج إلى مَنْ يخبرني به.»

ولكنّ هذا الكلام المتبجّح كان يمنع القيوط من اكتساب أصدقاء. وكذلك لم يكتسب أصدقاء بسبب التصرّفات الحمقاء التي يفعلها، والحِيل الوقحة التي يحتال بها على الآخرين.

كان يتبجّح: «سأختار واحداً من أعظم ثلاثة أسماء. تلك الأسماء هي: كْلي-لاو-ناو، ابن الجبل الدبّ الأشهب، الذي سيحكم شعب البرّ ممّن يمشون على أربعة قوائم؛ ملكا-نوپس، النّسر الذي سيحكم الطَّير؛ إن-تي-تي-أوي، السبّاح البارع سمك السلمون. سيكون السلمون زعيم الأسماك التي سيقتات عليها الخلق الجديد.»

انفجر توءم القيوط، الثّعلب، بالضّحك، وهو مَنْ سينال مع شمس اليوم التالي اسم واي-آي-لوه، الفرو النّاعم: «لا تكن واثقاً جداً يا سن-كا-لپ. لعلّك ستحتفظ باسمك الذي تحمله الآن. الجميع يكره هذا الاسم. لا أحد سيطلبه.»

«سئمتُ هذا الاسم،» صاح القيوط بغضب. «فليأخذه حيوان آخر. فليأخذه أحد العجائز عجوز يعجز عن الفوز في حرب. سأكون محارباً عظيماً. يا أخي الذكيّ، سأجعلك تتملّقني حين أُسمّى الدبّ الأشهب، أو النّسر، أو السّلمون.»

سخر منه الثّعلب: «كلماتك المتبجّحة لا معنى لها. من الأفضل أن تذهب إلى خيمتك، وتأخذ قسطاً من النوم، وإلّا لن تستيقظ في الوقت المحدّد ولن تختار اسماً.»

جرَّ القيوط نفسه إلى خيمته. قال لنفسه إنّه لن ينام هذه الليلة أبداً؛ بل سيبقى مستيقظاً إلى الصباح. دخل إلى خيمته، فصاحتْ جراؤُه بصوتٍ واحد: «لي-إي-أو!» (أبي!).

كانوا جائعين، ولكنّ القيوط لم يجلب طعاماً. أمّا أمّهم، التي صار تُسمّى پل-لاكو-وهو الخُلدة، الحفّارة، بعد يوم منح الأسماء، فقد أقعتْ على قدمها عند زاوية عتبة الباب. كانت الخُلدة امرأة طيّبة، مخلصةً لزوجها على الدوام برغم تصرّفاته الدّنيئة، واختلاقه للمشكلات، وحماقته. لم تكن غيورةً يوماً، ولم تَسْتَغِبْه بكلمة، ولم تردّ على إساءاته لها بالكلام. نظرتْ إليه وقالت:

«ألم تجلب طعاماً للأطفال؟ إنّهم يتضوّرون جوعاً. لم أجد جذوراً أنبشها.»

«هو هوووه!» تذمَّر القيوط. «لستُ كائناً عادياً كي أُخاطَب بهذه الطريقة. سأصبح زعيماً عظيماً في الغد. هل تعرفين هذا؟ سيكون لي اسمٌ جديد. سأكون الدبّ الأشهب. وبذا سأَلْتَهِمُ أعدائي بسهولة. ولن أكون بحاجة إليك بعد الآن. صرتِ عجوزاً وبيتوتيّة بحيث لا تصلحين زوجةً لزعيمٍ ومحاربٍ عظيم.»

لم تنطق الخُلدة بكلمة. استدارت إلى زاوية الخيمة وجمعت عدة عظام قديمة، وضعتها في كْلِكْ-تشن (قِدْر الطبخ). وبالاستعانة بغصنين صغيرين التقطتْ أحجاراً ساخنةً من النار ورمتها في القِدْر. سرعان ما غلت المياه، وصارت هناك شوربة خفيفة للأطفال الجياع.

«اجمعي ما يكفي من الخشب للنار.» أمرها القيوط. «سأسهر طوال الليل.»

أطاعته الخُلدة. ومن ثمّ ذهبت هي وأطفالها للنّوم.

جلس القيوط ساهراً عند النار. مضى نصف الليلة. نعس. ثقل جفناه. لذا التقط قطعتَيْ خشب صغيرتين وباعد بين جفنيه. فكّر: «سأبقى مستيقظاً الآن.» ولكنّ استسلم للنّوم بعد هنيهة وجيزة، مع أنّ عينيه بقيتا مفتوحتين.

كانت الشّمس قد ارتفعت في السّماء حين استيقظ القيوط. لولا أنّ الخُلدة نادته لم يكن ليستيقظ. نادته الخُلدة. نادته وأيقظته بعد أن عادتْ باسمه من بيت الروح الأكبر. كانت الخُلدة تحبّ زوجها. ولم تكن راغبةً في أن يمتلك اسماً عظيماً فيصبح زعيماً قوياً. إذ خشيت أنّه سيتركها حينئذ. ولذا لم توقظه مع طلوع الشّمس. ولكنّها لم تصرّح بهذا له.

نصفَ مستيقظِ بعد، ظاناً أنّ الوقت ما يزال الصباح الباكر، قفز القيوط عند سماع صون الخُلدة وهرع راكضاً إلى بيت الروح الأكبر. لم يكن هناك أحد آخر من جماعة تشپ-تشاپ-تيكولك. ضحك القيوط. ودخل إلى البيت وهو يرمش بعينيه النّعستين، ثم صاح: «سأصبح كي-لاو-ناو. هذا ما سيصبح عليه اسمي.»

«أُخذ اسم الدبّ الأشهب منذ الفجر،» أجابه الروح الأكبر.

«إذن سأصبح ملكا-نوپس،» قال القيوط بصوتٍ أخفض.

«طار النّسر مع ارتفاع الشّمس،» ردَّ الروح.

«حسناً، سأُسمّى إن-تي-تي-أوي،» قال القيوط بصوتٍ خفيضٍ جداً.

«أُخذ اسم السلمون أيضاً،» فسَّرَ له الرّوح. «أُخذت الأسماء كلّها ما عدا اسمك. لم يشأ أحد سرقة اسمك منك.»

خارت ركبتا القيوط المسكين. انهار قرب النّار التي كانت تتّقد بقوّة في الخيمة، فتأثّر قلب ها-آه إيل-مي-وهين.

قال له: «سن-كا-لپ، لا بدّ أن تحتفظ باسمك. إنّه اسمٌ جيّد يليق بك. نمتَ طويلاً لأنّني أردتُ أن تكون آخر الواصلين هنا. لديّ عمل مهم لك، سيكون لديك عمل كثير تؤدّيه قبل مجيء الجنس الجديد. ستكون زعيم القبائل كلّها.

كائنات سيئة كثيرة تسكن الأرض. إنها تزعج الناس وتقتلهم، ولا يمكن للقبائل أن تتزايد كما أودّ. لا يمكن السّماح لهؤلاء إن-ألت-نا سكل-تن الوحوش التي تلتهم الناس بمواصلة ما تفعله. لا بدّ من إيقافها عند حدّها. وستقع عليك مسؤوليّة هزيمتها. وحين تفعل هذا، ومن أجل كلّ الأشياء الجيّدة التي فعلتها، ستُكرَّم وتُبجَّل من الكائنات الموجودة الآن ومن الكائنات التي ستأتي بعدها. ولكن أيضاً - ستكون موضع سخرية واحتقار على الأمور الحمقاء والدّنيئة التي ستقترفها. لا مفرّ من هذا. هذا مسار حياتك المحتوم.

«وكي أُسهّل عليك عملك، سأَهِبُكَ سكواس-تنك. إنّها قوّتك السحريّة الخاصة. لن يمتلكها أحدٌ سواك. حين تكون في خطر، ومتى ما احتجت إلى عون، استدعِ قوّتك. ستساعدك كثيراً، وبالاستعانة بها يمكن لك أن تغيّر شكلك إلى أيّة صورة أخرى، وإلى أيّ شكل يحلو لك.

«ولأخيك التوءم، واي-أي-لوه، وللآخرين، وهبتُ قوّة شو-مش. وهي قوّة هائلة. يمكن للثّعلب مستعيناً بهذه القوة أن يعيد لك حياتك لو قُتلتَ. قد تتبعثر عظامك، ولكنْ لو تبقّتْ شعرةٌ واحدةٌ من فرائك، يمكن للثّعلب أن يعيدك حياً من جديد. ويمكن للكائنات الأخرى أن تقوم بالأمر ذاته مستعينةً بقوّة شو-مش. والآن اذهب يا سن-كا-لپ! أَدِّ العمل الذي كُلِّفتَ به!»

إذن، صار القيوط زعيماً في نهاية المطاف، وأحسّ بالانتعاش من جديد. صارت عيناه مختلفتين منذ ذلك اليوم. صارتا مائلتين بما أنّه تركهما مفتوحتين وهو نائمٌ عند النار تلك الليلة. وقد أخذ الهنود، الجنس الجديد، أعينهم المائلة قليلاً من عينَيْ القيوط.

بعد ذهاب القيوط، فكّرَ الروح الأكبر أنّ من الجيّد لشعب الحيوان وللشّعب الجديد القادم أن يتمتّعا ببيت بخار الطّهارة الرّوحانيّ. ولكنّ جميع الحيوانات أخذت أسماءً لها، ولم يتبقّ أحدٌ ليأخذ اسم بيت بخار الطّهارة كْوِلْ-ستن، المدفأة. ولذا أخذتْ زوجة الروح الأكبر هذا الاسم. أرادت لجميع الكائنات أن ينتفعوا من بيت بخار الطّهارة، إذ أشفقتْ عليهم. أرادت لهم أن ينالوا مكاناً يلجؤون إليه ليطهّروا أنفسهم، مكاناً يمكن لهم فيه أن يصلّوا من أجل اكتساب القوّة والنّصيب الجيّد ومنافع الطبّ القويّة، حيث يمكن لهم أن يقارعوا المرض ويتخلّصوا من كلّ ما يكدّرهم.

تُمثّل الأضلاع، أو أعمدة الإطار، في بيت الطّهارة زوجةَ الروح الأكبر. وبما أنّها روحٌ أيضاً، فهي غير مرئيّة، ولكنّها موجودةٌ في الجوار دوماً. ثمّة أناشيد مُكرَّسةٌ لها يغنّيها الجيل الحاليّ. إنّها تسمعهم. تسمع ما يقوله النّاس، وقلبُها مفعَمٌ بالحبّ والرّحمة.

* * * * * * *

هوميشوما (يمامة الحِداد): كاتية أميركيّة من السكّان الهنود الأصليّين، اشتُهرت باسمها الأميركيّ «كرستين كْوِنْتاسكِتْ». ولدت عام 1888. اضطرت للتخلّي عن لغتها الأصليّة حتّى كادت تنساها حين تلقّت التّعليم في مدارس البعثات التّبشيريّة في ولاية واشنطن. ولكنّ قربها من جدّتها لأمّها أكسبها ذخيرةً هائلةً من القصص الفولكلوريّة التي جمعت بعضها في هذه المجموعة التي صدرت عام 1933. وكانت قد أصدرت رواية «كوغيويا» عام 1927 التي كانت إحدى أوائل الروايات التي كتبتها مؤلّفة من السكّان الأصليّين، وإنْ كانت مجموعة القصص هي التي رسّخت اسمها أكثر. توفيت عام 1936.

 

صدرت ترجمة الكتاب أخيراً عن منشورات «تكوين» (الكويت) ودار الرافدين.

 

 

 

 

 

 

 


Share:

Friday, October 9, 2020

الطيران تحت سماء واطئة




ربما كان ممدوح عدوان أكثر من استعيد في السنوات الأربع السورية الأخيرة. يكاد يكون لكلّ من استعاده «ممدوحه» الخاص؛ ولكنّ الفيديو الشهير لعدوان في اجتماع اتحاد الكتّاب العرب عام 1979 كان يغطّي على كلّ ما عداه. ممدوح هناك انتقد السلطة التي كانت في أوج قوّتها، بل حين كان الصراع الداخلي يشهد جولته الكبرى في تاريخه المعاصر وصولاً إلى انتفاضة عام 2011 والحرب التي تلتها. كان صوته آنذاك أحد أقوى الأصوات، إن لم يكن أقواها على الإطلاق. تكمن تلك القوة في كونه غير مستند إلى حزب أو طائفة أو عشيرة تدعمه؛ كان صوتاً متفرّداً حتى في أشدّ اللحظات حلكة. ولكنّ الأهم أنّ ممدوح كان معارضاً من الداخل: داخل البلاد، وداخل المؤسسة. لم يكن، آنذاك، اسماً عابراً، بل كان أحد أهم الأسماء الثقافية السورية التي تأسّس عليها المشهد الثقافي السوري وصولاً إلى منتصف التسعينيات، حين بدأ الانحدار على جميع المستويات.

تناسى البعض أنّ أهمية ذلك الفيديو لا معنى لها لو كان ذلك الفيديو لحظة عابرة. وتعززت أهمية ذلك الفيديو، كمعبّر عن الأصوات المعارضة «الإصلاحية»، مع استمرار مسيرة ممدوح عدوان الثقافية. كان معارضاً ثقافياً، لو جاز التعبير، بعدما أدرك عقم السياسة.

كان يحاول دوماً تحقيق معادلة مستحيلة في سوريا، وجميع الدول العربية، وهي أن تحافظ على نظافتك حتى بعد غرقك في المستنقع الآسن للحياة اليومية في وسط ثقافي هو الأسوأ بين جميع دول شرق المتوسط، حيث المحسوبيات والشللية، وحيث يحتل أنصاف الموهوبين والمخبرون كلّ شيء من دون ترك أي فتات لأحد. أن تعارض فساد الطبقة الحاكمة في لحظة يصبح كل من يعارضها مشبوهاً وإرهابياً ومحسوباً على قوى خارجيّة، لا يعني أنك تسبح ضد التيار فحسب، بل أنك تخلق تياراً آخر. لم يكن لذلك الفيديو معنى لو لم يكن ممدوح في الداخل، وفي اجتماع لأكبر مؤسسة ثقافية رسمية قبل تدجينها الكامل. لا معنى لذلك الفيديو إلا إذا ترافق مع العبارة اللاحقة الشهيرة لممدوح حين تحدّث عمّن هم في الخارج، ويقذفون حنينهم للوطن كعادة سريّة. لم تكن علاقة ممدوح بالوطن عادة سريّة، بل كانت علاقة شائكة بالذات والهويّة ومعنى الحضور في زمن التغييب، والصراخ في زمن السكوت.
لا معنى لذلك الفيديو حتى لو روّج له ثوريّو اليوم، بل ربما لا معنى له لأنهم هم من روّجوا له. تذكّرنا، وتذكّرهم، مسيرة ممدوح عدوان، بالمثالين اللذين يريد هؤلاء الثوريّون تناسيهما: إيران وجنوب أفريقيا؛ أو الخميني ومانديلا. لم يصنع الخميني ثورة إيران، كما لم يخلق مانديلا تمرّد السود. أي، لم تبدأ ثورة إيران من المنفى، كما لم تبدأ ثورة جنوب أفريقيا من السجن. بل ربما بالإمكان القول إنّ حضورهما كان مسرّعاً للثورة لا أكثر، إذ كانت الثورتان ناضجتين بما يكفي للقطاف. هذا ما لا يريد ثوريّو الخارج إدراكه. لا معنى للثورة عن بعد، حتى لو كان هناك رمز بحجم الخميني أو مانديلا (وهو ما تفتقده الانتفاضة السورية على أية حال). تبدأ الثورة من الداخل بالضرورة، وليس حضور الخارج (المنفى الاختياري أو القسري) أكثر من مكمّل للصورة، أو مسرّع للعمليّة. لا معنى لذلك الفيديو لو كان التاريخ السوري قد بدأ بآذار 2011 كما يريد منا الثوريون. لكن لذلك الفيديو المعنى كله، والأهميّة كلها، لو وضعناه ضمن سياق تاريخيّ دقيق يبدأ بالمسحوقين وينتهي بهم، ويمر بالضرورة بطبقة مثقّفين صادقين، بصرف النظر عن تصنيفهم، أكانوا ثوريين أم إصلاحيين.
تعيدنا ذكرى ممدوح عدوان إلى ضرورة إعادة التفكير في معنى الثورة والإصلاح، وإعادة تعريفهما. ولن يكون من الصعب، حين دراسة حياة ممدوح، الميل إلى الإصلاح، كما يمثّله هو. إصلاح بألف ثورة، هذا ما كان يمثّله ممدوح عدوان ولا يزال برغم غيابه. تتعاظم أهمية هذا الإصلاح حين نستعيد علاقة ممدوح بمجايليه المهمّشين، وبالأجيال اللاحقة التي هُمّشت بحكم الأمر الواقع بسبب الانهيار الكلي في المنظومة الثقافية والاجتماعية والسياسية السورية. كان ملجأً دائماً لهؤلاء المهمّشين، وصرختهم التي عجزوا عن إطلاقها، أو أُرغموا على ذلك. نكاد لا نعثر على شبيه له في الوسط الثقافي السوري لو استثنينا هاني الراهب وشوقي بغدادي. حين نتذكّر مقدّمته لمجموعة إبراهيم صموئيل الأولى «رائحة الخطو الثقيل» (1988)، المترافقة مع كلمة الغلاف الخلفيّ لشوقي بغدادي، سندرك معنى المثقف الحقيقي الذي لم يتردد في إعلان ولادة متأخرة لمبدع سوري في زمن الضيق والقحط. أما إن أضفنا بأنّ ذلك المبدع اسم مُغيَّب بشكل متعمَّد منذ أواخر السبعينيات، ستكتمل أمامنا صورة ممدوح كمثقّف متفرّد.
ليس نتاج ممدوح عدوان هو ما يصنع وزنه الثقافي، برغم أهمية ذلك النتاج وتنوّعه المرعب وغزارته المدهشة. سنختلف في تقييم مكانته الشعريّة، أو المسرحيّة، أو الصحافيّة، أو في الترجمة، أو السيناريو التلفزيونيّ، ولكن لا يمكن لنا الاختلاف في حضوره العظيم كمثقّف أدرك أنّ الثقافة ليست سوى لهواً ومتعة شخصيّة، وبأنّ هذا اللهو وتلك المتعة هما ما يُقلق أصحاب العروش، ولذا استمر في لهوه وعبثه ومتعته حتى أيامه الأخيرة. أدرك مبكّراً بأنّ السير في الأزقة السوريّة الموحلة يعني الاتّساخ بالضرورة، ولذا أتقن أهميّة القفز بين الوحول، كأنه يطير، كي يخفّف الاتّساخ. طيران ممدوح جعل الأجيال اللاحقة لا تدفن أجنحتها بأيديها، ولذا ستستمر لعبة الطيران، حتى وإن كانت السماء واطئة.


نُشرت في جريدة «الأخبار» اللبنانيّة 19/12/2014


Share:

Friday, October 2, 2020

خورخي لويس بورخس: الإنكليزيّ الذي لم يكن

 


 

 

لا سبيل إلى الإحاطة ببورخس، إذ يدرك القارئ أنّ كل ما يحتاج إليه هو نص واحد من نصوصه ليغرق في رماله المتحركة التي لا فكاك منها. ليست مياه كمياه إدغر آلن بو قبله أو إيتالو كالفينو بعده، بل رمال متحركة لا تختلف عن الرمال المحيطة بها، ولكنّك لن تميّز تفرّدها إلا عند الغرق. تبقى آثار الرمال حتى بوجود فلاتر الترجمة التي كانت وسيلة معظمنا للدخول إلى متاهاته. لا نعلم ما إذا كانت قراءته بالإسبانيّة أجمل من قراءته مترجَماً لأنّه أعظم مَنْ منح الترجمة مكانة أسمى من الكتابة، ليسدّد ضربته القاضية في دَيْن مؤجَّل إلى ثربانتس الذي حَكَمَ على الترجمة بأنّها لن تكون أكثر من ظل باهت، ولكنّ بورخس أمكر، حين أدرك روعة الظلال التي تكون أبهى من الأشياء. ولذا لم يتردّد في تصويب رصاصاته الذكيّة الصائبة إلى ثربانتس ولو بعد قرون طويلة حين كتب عن نفسه وعن ثربانتس وعن «كيخوته» وعن مغامرة القراءة التي باتت مقترنةً باسم بورخس على الدوام، هو والفردوس/المكتبة. ليست تلك رصاصته الوحيدة. إذ منحنا ما يقرب من مئة صفحة من الرصاص المتلاحق الذي يرسم حياته في كتاب «هوامش سيرة» الذي ترجمه لنا سنان أنطون وصدر أخيراً عن منشورات الجمل. صدر الكتيّب عام 1970 بمثابة تمهيد لطبعة أعماله الكاملة، وإنْ بات عملاً مستقلاً تنفصل فيه المقدّمة عن المتن وتبقى متّصلةً به في آن.

رصاصات متلاحقة من العبقريّ الذي انتقى مساره واعياً ولاواعياً بعيداً من مسار عائلتيه العسكريّتَيْن، وبقي يشعر بعار الفراق عن «المصير الملحميّ» إلى أن بلغ الثلاثين وأدرك أنّ ذلك المصير الملحميّ الذي تُسبغه الآلهة لا يلائمه لأنّه سيلوي أعناق المصائر والملحميّة ليكون هو هو، بلا آثار المعارك التي رسمت تاريخ عائلتيه مختلطتَيْ الجنسيّات، بل أوغل في الابتعاد إلى درجة تحويل الملاحم إلى مفارقات لغويّة باتت هي ملحمته الأثيرة، حين يبدأ كلامه عن سيرة حياته بتذكّر أنّ الشركة التي قُتل جدّه برصاصاتها هي ذاتها التي أنتجت شفرات الحلاقة التي يبدأ بها الحفيد يومه. المعامل ذاتها أنتجت سلعتين مختلفتين، ورسمت مصيرين مختلفين لبورخسَيْن متناقضين. لا نجد حضوراً واعياً لوليم فوكنر في أعمال بورخس، على أنّ أسلوب تدوينه لمفارقات العائلة فوكنريّ حتّى النخاع إذ تتناوب المشاهد التي سترسم مصائر الأجداد والأحفاد، وإنْ كان فوكنر قد تورّط في جحيم الحروب التي لم يعرفها بورخس.

ولكن مع انتهاء الطفولة، تملَّص بورخس بذكاء من فوكنر ليكتب مراهقته وصباه بمسارات أخرى لا يربط بينها وبين فوكنر إلا اللغة الإنكليزيّة (فليغفر لنا الأميركيّون الذين يصرّون على أنّ لغتهم لغة مستقلة) التي شكّلت جذر بورخس اللغويّ الفعليّ أكثر حتى من الإسبانيّة التي كان يُفترَض بها أن تكون لغته الأم. لم نظفر بأعمال إنكليزيّة لبورخس الذي أبقاها لبعض التمهيدات الموجزة لترجمات أعماله، فيما باتت الإسبانيّة قَدَره الذي لم يستسغه بدايةً ولكنّه مضى فيه راضياً وإنْ بأسلوب إنكليزيّ لا تخطئه العين المدقّقة. ولم ينج من هذه العدسة الإنكليزيّة التي يقرأ بها بورخس حتّى ثربانتس أعظم الكتّاب بالإسبانيّة صاحب أعظم عمل بالإسبانيّة: رواية «كيخوته» التي أسبغ عليها بورخس أعظم وأردأ حُكم أدبيّ حين بدت له «وكأنّها ترجمة رديئة». لم يصرّج بورخس باللغة التي بدت «كيخوته» مترجمةً منها ولكنّها الإنكليزيّة حتماً. حُكمٌ لم يكن ثربانتس ليبتهج به طبعاً، ولكنّه حكم لم يكن ليُضلّل بورخس عن جوهر عظمة «كيخوته»، أم الروايات وأعظم رواية لا تشبه الروايات في آن، حين قرأها بورخس كما يقرأ كل شيء: بوصفه مزيجاً مُحكَماً من القصة القصيرة والمقالة.

واصلت الإنكليزيّة حضورها عند بورخس منذ الطفولة إلى الشيخوخة، حتى في سنوات الدراسة التي كانت باللاتينيّة والفرنسيّة، حيث بقيت الإنكليزيّة في الظل الذي يرتاح فيه بورخس أكثر من الأضواء المباشرة. اللافت أنّه تعاملَ مع الإنكليزيّة، على عكس الغالب الأعم من متحدّثيها أو حتّى متابعي الأدب المكتوب بها؛ بدأ بورخس من الأضواء واستقرّ في الظل: بدأ بأوسكر وايلد وفوكنر وفرجنيا وولف وشيكسبير ولكنّه استقر في النهاية في هامش الأدب الإنكليزيّ كما في أعمال تشسترتن وآلن بو وفي قصص هنري جيمس، إلى أن بدأ رحلته العجيبة رجوعاً إلى الإنكليزيّة الوسيطة والقديمة التي كانت أشبه برحلة إلى الجذور الخفيّة التي طغت عليها شجرة الإسبانيّة التي لم تكن لتغريه بتطويبها وتطويب أدبها في المكانة الأسمى التي أبقاها للإنكليزيّة ولأدبها «الأغنى في العالم». ولكن أيّ أدب ذاك؟ ليس الأدب الذي يُدَرَّس أكاديمياً في تأريخ جاف ينفر منه حتّى عشّاق اللغة، بل ذلك الأدب المنسيّ الذي كان وما زال وسيبقى أدباً صعب المنال حتّى لو حكمت الموضة الأدبيّة باستعادته موقّتاً، كمقالات تومس دي كوينسي وتومس براون، وقصائد والت وتمن الذي رآه بورخس «الشاعر الأوحد».

لا يصرّح بورخس بمشاعره حيال ترجمة أعماله إلى الإنكليزيّة، ولكنّنا ندرك من كتب أخرى أنّها التجربة الأعظم في حياته حيث أُتيح له العمل على نصوصه مرتين: مرة بالإسبانيّة، وثانية بالإنكليزيّة التي كان الشريك الدائم فيها لمترجمه دي جيوفاني. اللافت أنّ الظل المنعش الذي كرّسه بورخس للإنكليزيّة انقلب إلى أضواء ساطعة معاكسة حين كانت الإنكليزيّة بوابة عبور بورخس إلى «العالميّة» وإلى الشهرة، أكان هذا في ترجمة أعماله، أو في حضوره أستاذاً زائراً في جامعات أميركيّة يُدرِّس فيها الأدب الأرجنتينيّ من دون أن يتخلّى عن عشقه في دراسة الإنكليزيّة القديمة. لم تغيّر هذه الشهرة الحارقة بورخس، لا لأنّه عصيّ على الاحتراق، بل لأنّه يعرف نفسه، ويدرك لعنة الشهرة التي يماهي بينها وبين العمى حين هاجماه بالتوازي، ويُبدي إيقاناً مدهشاً بأنّها لن تعني الكاتب الذي بدأ اللعب متأخّراً بعد أن غادرته أوهام الشباب، أو الكاتب الشيخ الذي يشير صراحة إلى أنّ أهم أعماله باتت وراء ظهره وأنّه لن يكتب أعمالاً أهم منها. لن يتوقّف عن الكتابة حتماً، بل سيبحث عن طمأنينة الوصول بعد تلك الحياة الحافلة. يختم بورخس كتابه القصير بتمنٍّ مفرط في التفاؤل والألم في أن «يُحِبّ ويُحَبّ» كي تكتمل طمأنينته المنشودة، ولكنّنا ندرك أنّ الطمأنينة ستبقى مشوبةً بالحسرة حتّى لو تحقّقت الأماني، إذ ستبقى الأحلام؛ أحلام ذلك الأرجنتينيّ الذي لم يتخلّ عن حلمه في أن يكون إنكليزياً، ولكنّه لم يكن.     

 

Share: