Thursday, May 13, 2021

إيلان بابه: 60 عاماً من الهوية المنقوصة

 

 


 

 

لطالما كانت مسألة فلسطينيي الداخل (أو فلسطينيي الـ 48) مثار جدال كبير في الأوساط الأكاديمية في إسرائيل وخارجها. ويمكن القول إنّ الاهتمام الأكبر بهذه الشريحة السكانية، التي اختلفت تسمياتها (بحسب وجهة النظر التي يتبناها هذا الكاتب أو ذاك) بدأ إثر الانتفاضة الأولى عام 1987. ابتداء من هذا العام فرض فلسطينيو الداخل أنفسهم بقوة في المشهدين الفكري والسياسي في آن، كجماعة قومية شكّلت، ولا تزال، عقبة كبيرة أمام تكريس مفهوم «الدولة اليهودية» الذي اشتدّ الجدال حوله منذ التسعينيات.

يتناول إيلان بابه (1954) في كتابه «الفلسطينيون المنسيّون: تاريخ فلسطينيي 1948» (2011)، الذي صدرت نسخته العربية بترجمة هالة سنّو عن «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر» (2013)، تاريخ هذه الجماعة منذ نكبة عام 1948 وصولاً إلى نهاية القرن العشرين. يستهل بابه كتابه بإهداء لإحياء ذكرى الشهداء الفلسطينيين الثلاث عشر الذين قتلتهم الشرطة الإسرائيلية مع اندلاع الانتفاضة الثانية في تشرين الأول (أكتوبر) عام 2000. وبهذا، يفرض بابه وجهة نظره لمن لا يعرفه بشكل واضح؛ سيكون الكتاب أقرب إلى الرؤية الفلسطينية في تدوين الأحداث. تلك الرؤية التي تبناها (بدرجات متفاوتة) أعضاء تيار «المؤرخين الجدد»، عدا عن مفكّرين آخرين، في إعادة كتابة تاريخ القضية الفلسطينية ابتداء بالنكبة. ويمكن القول، عموماً، بأن بابه يبدو في منتصف المسافة في التناول الموضوعي لتاريخ هذه المسألة بين بيني موريس الأقرب للرؤية الصهيونية ونورمن فنكلستين الأكثر شراسة في تبنيه للرؤية الفلسطينية للمسألة، وإن كان فنكلستين متخصصاً بشكل أكبر في المحرقة النازية.

يبرر بابه عدم وجود محاولات سابقة لتدوين تاريخ فلسطينيي الداخل إلى «التاريخ قصير الأمد» الذي يمتد إلى 65 عاماً فقط، وبشكل أكبر إلى افتقار هذه الجماعة إلى «معالم واضحة لهويتها، سواء كانت عرقية أو ثقافية أو قومية أو جغرافية أو حتى سياسية». وانطلاقاً من هذه النقطة، يشرح بابه تطورات وتباينات التسمية التي ستلتصق بهذه الجماعة مع تعاقب السنين والحكومات والحروب. إذ بدأت مأساتهم عملياً مع النكبة حين كانوا يُعرّفون داخل إسرائيل بكونهم «الأقلية العربية»، مع ملاحظة إدراج الدين لا القومية تحت بند «الجنسية» في البطاقات الشخصية. وهنا، يختلف بابه عن زملائه من المؤرخين الجدد، وبالطبع عن المؤرخين الصهيونيين التقليديين، حينما يؤكد بأن هذه الآلية البيروقراطية كانت تترافق مع آليات قانونية وتشريعية تمييزية تعمل على تجريد الفلسطينيين من كل ما يملكون «إما أن يخلّفوا وراءهم كل شيء، وإما أن تُسلب منهم أملاكهم»في عملية منهجية كشفت عنها الوثائق القانونية لتلك المرحلة.

وبذلك بدأت معركة فلسطينيي الداخل المتسمة بمراحل وتنويعات مختلفة؛ إذ كانت، ضد الإسرائيليين، معركة ضد الإقصاء وبهدف تحقيق مواطنة كاملة، فيما كانت ضد النظرة الظالمة العربية والفلسطينية خارج الأرض المحتلة المتلخصة في كونهم «خونة». وتلخص هذا الموقف عبارة الكاتب رائد حسين في مؤتمر دول عدم الانحياز ببلغراد (1959): «من نكون نحن عرب إسرائيل؟ هنا يعتبروننا طابوراً خامساً وهناك خونة. نعيش في عالمين ولا ننتمي إلى أي منهما». وستكون هذه «الهوية الغامضة» هي الأساس الذي ستستند إليه هذه الجماعة في معاركها القادمة. إذ يؤكد بابه بأنّ «غريزة البقاء هي التي سيّرت مجرى النشاط السياسي» في ما بعد، وبالتوازي مع تلك الغريزة كان لا بد من إيجاد «حاضنة» للتعبير عن صوت هذه الجماعة؛ وبالتأكيد، كان الخيار الأفضل هو الحزب الشيوعي الإسرائيلي، فيما إذا استثنينا جماعات أصغر (الدروز والبدو) ممن فضّلوا الالتحاق بالخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي طمعاً بمكاسب أكبر، أو على الأقل باعتراف رسمي بكونهم مواطنين كاملي الحقوق.

ابتداء من الخمسينيات وصولاً إلى نهاية القرن، بدا وكأن الأحزاب هي المكان الأمثل للبحث عن هوية محددة لفلسطينيي الداخل، ومن ثم العمل على بلورتها. ومع اندلاع الانتفاضة الثانية، بدأت الهجرة المعاكسة من الأحزاب إلى الحياة العامة والمنظمات غير الحكومية التي وصل عددها عام 2001 إلى 600 منظمة تقريباً، باتت هي الساحة الفعلية لتأكيد وجود الفلسطينيين داخل البيئة الإسرائيلية العنصرية. ولا بد من الملاحظة بأن إيقاع «نضال» فلسطينيي الداخل كان مترافقاً دوماً بوجود شخصية قيادية تضبطه. إذ عمل كل من إميل توما وإميل حبيبي، بين عامي 1957-1958، على السعي إلى تأكيد الهوية القومية داخل إسرائيل عبر اعتناق استراتيجية«عدم الانخراط في صراع مع الدولة اليهودية»، ليثمر هذا العمل لاحقاً في «انتصار القومية على الأممية» بعد انسحاب الأعضاء الفلسطينيين من الحزب الشيوعي القديم «ماكي» وإنشاء «اللائحة الشيوعية الجديدة» (راكاح)، في خطوة استطاع فيها إميل حبيبي ورفاقه تثبيت هوية قومية لهم. وبعد الانتصار المفاجئ لتوفيق زيّاد في الانتخابات البلدية في الناصرة (1975)، تنبّه الفلسطينيون بشكل أكبر إلى هويتهم المفقودة، بخاصة بعد التصعيد الإسرائيلي الشرس، وصولاً إلى «يوم الأرض» (30 آذار (مارس) 1976) الذي شكّل البداية الفعلية للهوية القومية الفلسطينية. ثم جاء عام 1996 ليحمل مفاجأة كبرى هي ظهور حزب وطني، ليس صهيونياً أو إسلامياً أو شيوعياً، هو «التجمع الوطني الديمقراطي» («البلد») بقيادة عزمي بشارة الذي استطاع دخول الكنيست، ومن ثم الترشح إلى رئاسة الوزراء عام 1999، قبل أن يتم نفيه عام 2007. ويشير بابه إلى أن السنوات الأخيرة التي تلت نفي بشارة شهدت انقسامات في صفوف الفلسطينيين ليعود ذلك الاستقطاب الحاد بين «علمانيين» و«إسلاميين» للظهور ميدانياً عدا عن المنظمات غير الحكومية التي أصبحت هي الوسيلة الأبرز في الصراع القانوني والوجودي لإثبات أحقية الفلسطينيين بمواطنة كاملة داخل إسرائيل.

وعلى عكس الآراء السائدة في الأوساط الأكاديمية (كما عند سامي سموحة وإيلي ريخيس) التي تقول بأن اتفاقية أوسلو «سرّعت عملية «أسرلة الفلسطينيين» في إسرائيل، وأبعدتهم عن القضايا الفلسطينية الجامعة لصالح القضايا المحلية»، يؤكد بابه العكس، إذ إن أوسلو زادت الشرخ بين الفلسطينيين والإسرائيليين لا سيما في انتخابات عام 1999، حينما قام عدد كبير منهم بالتصويت بأوراق بيضاء (بعد أن كانت نسبة المقترعين الفلسطينيين تصل إلى 85%) لأنهم «شعروا بعدم قدرتهم على رؤية أي فرق بين اليمين واليسار في المعسكر السياسي اليهودي»، بصرف النظر عن مواقفهم المتناقضة من ياسر عرفات والسياسات الجديدة لمنظمة التحرير. كما يشير إلى أن تصاعد العنف الإسرائيلي بعد الانتفاضة الثانية ساهم في ولادة جيل فلسطيني جديد شاب «يؤكد على حقوقه، ويلتزم التزاماً شديداً التعريف الدقيق بالمجموعة التي انتمى إليها بصفته مجموعة قومية». أي أن الصراع عاد إلى صيغته الوجودية القديمة، ولم يعد مقتصراً على معارك قانونية وتشريعية صغيرة.

وبالرغم من الانتقادات القاسية التي يوجهها بابه إلى إسرائيل التي يعتبرها «هجيناً بين دولة استعمارية استيطانية ونظام استخباري مفروض على سكانه الفلسطينيين» (بل ووصل إلى حد تسميتها بـ «دولة المخابرات الإسرائيلية»)، إلا أن ثمة مواضع في الكتاب يبدو فيها تردد بابه في اتخاذ موقف حاسم. ففي الحديث عن مجزرة كفر قاسم، لا نجد رأياً واضحاً بشأن ما جرى برغم الوثائق الموجودة، إذ يبدو ميالاً بشكل أكبر إلى اعتبار أن الكولونيل يساكر شادمي (المسؤول العسكري عن العملية) «أعطى الأوامر على افتراض أنه كان يباشر تنفيذ الخطة (س 49) التي افتضحت أثناء المحاكمة»؛ أي إنّ بابه يرفع المسؤولية، ولو جزئياً، عن القائد العسكري بدعوى أن الخطة صادرة عن الحكومة، حتى لو كان ذلك بشكل سري. ثم يعود (في موضع آخر) ليرفع المسؤولية عن شلومو بن عامي حينما كان وزيراً للشرطة في حكومة إيهود باراك في الانتفاضة الثانية (2000)، بدعوى أن الشرطة «خالفت أوامره باستخدامها قناصة ووحدات هجومية مدربة على التعاطي مع إرهابيين يهاجمون المدنيين، وليس مع مدنيين يتظاهرون احتجاجاً على سياسات إرهابية»، مكتفياً بالاعتماد على أقوال ضباط في الحالة الأولى، وعلى حوار للوزير مع «هآرتس» في الحالة الثانية.

بالطبع، يشكّل كتاب «الفلسطينيون المنسيّون» إضافة مهمة إلى المكتبة الخاصة بالقضية الفلسطينية، بخاصة وأن جماعة فلسطينيي الداخل شبه مجهولة في المكتبة العربية، باستثناء كتب قليلة (متفاوتة القيمة) صدرت في الأعوام الأخيرة. ومع الخلو شبه الكامل للساحة الأكاديمية الفلسطينية من المتخصصين في تدوين تاريخ فلسطينيي الداخل، وتاريخ نكبة العام 1948 بشكل خاص، سنبقى في السنوات القادمة أسرى الرواية الإسرائيلية للأحداث، فيما عدا استثناءات نادرة، وأسرى الصورة النمطية عن «الآخر» الفلسطيني خلف الجدار العازل.


نُشرت في جريدة «الأخبار» 8/2/2014

 

 

Share:

Friday, March 5, 2021

خورخي فرانكو: عن ليليت وعشّاقها

 


 

 


كان الروائيّ والنّاقد الأميركيّ وليم غاس قد أقرّ عام 2006 بمرارةٍ ممزوجةٍ بإعجابٍ موجع أنّ روائيّي أميركا اللاتينيّة «أصحاب (بيت) الرواية. أما نحن الآخرون فنجرّب فيها بين حينٍ وآخر، نحن مستأجِرون.» خمسة عشر عامًا تكفي لقلب المعادلة بأسرها. تضاعفت لعنة «البست سِلر» مع ظهور «نتفلكس» وأخواتها حين باتت المحكّ الأكبر في فرض بوصلة الأدب. الأدهى أنّ الأمر ليس مقصورًا على الأدب الأميركيّ فقط، بل امتدّ التأثير ليشمل حتّى أدب أميركا اللاتينيّة الذي كان يتباهى بمردته الذين لا سبيل إلى منافستهم. عربيًا، كان أدب أميركا اللاتينيّة يعني علامة جودة حتميّة بوجود صالح علماني. رحل علماني، وظهر مترجمون آخرون لا يقلّون أهميّة عنه، بل لعلّهم أوسع اطّلاعًا، وأشدّ نشاطًا (نعم، كنّا نعدّ الأمر مستحيلًا)، والأهم أنّهم أنصع عربيّةً، وأشدّ حذرًا حيال مسخ أساليب الكتّاب المتنوّعة، ولكنّ الأدب تغيَّر. مارك جمال أحد علامات الجودة الأحدث اليوم، خصوصًا وهو يمتلك برتغاليّةً تضاهي إسبانيّته. لكنّ لعلامة الجودة جانبها السلبيّ حين يُضطر المترجم إلى ترجمة أعمال متفاوتة المستوى، لا من ناحية الترجمة بل من ناحية الكتابة في ذاتها. ولذا يبدو جمال، أحيانًا، أهمّ من ترجماته، مثله في هذا مثل معاوية عبد المجيد عن الإيطاليّة. ولكنّ المرء لا يحلم بروائيٍّ من مستوى إيتالو سفيفو أو ماتشادو دي أسيس كلّ يوم، ولا يودّ - حتمًا - أن يعيش المترجمون الممتازون على الكفاف في ظل ظروف النّشر السيئة. لا بدّ من أعمال أقل مستوى من الأعمال العظيمة، ولا بدّ لمطحنة النّشر أن تواصل عملها.

تُقرأ رواية «روساريو» للكولومبيّ خورخي فرانكو (دار «ممدوح عدوان» ومنشورات «سرد») ضمن هذه العدسة تحديدًا. رواية تضمّ جميع التوابل اللازمة للانتشار: المخدرات، الجنس، المرأة المغوية، العنف، من دون أن يكون صاحبها بارعًا بما يكفي لضبط مستوى الرواية كيلا تنزلق إلى مستوى «أفلام B». لا تخلو الحياة من هذه التوابل بطبيعة الحال، بل لعلّها تنزلق شيئًا فشيئًا لتصبح هذه المظاهر الهامشيّة هي المتن، إلا أنّ الكتابة عن هذه المظاهر تفترض عينًا واعية تُحاذر الوقوع في مطبّ التوصيف من أجل التوصيف، أو الإثارة من أجل الإثارة. الكليشيهات سيّدة الموقف في هذه الرواية القصيرة التي كان يمكن لها أن تكون أفضل. معظم مشاهدها مُصطنعة وكأنّها مسروقة من صورةٍ عن الحياة، لا مستمدّة من الحياة في ذاتها. يظنّ القارئ للوهلة الأولى أنّ الارتباك الذي يسم السّرد خدعة سرديّة يستند فيها الكاتب إلى راوٍ غير موثوق به، وإلى شخصيّات غامضة، وإلى تداعيات ذاكرة فوضويّة، إلا أنّ واقع الحال يتكشّف بعد منتصف الرواية حين تتمرّد الشخصيّات على كاتبها، ويبدأ تخبُّط وتكرار لا ينقذنا منه حتّى روساريو نفسها التي هي بحقّ سيّدة روايتها.

تُذكّرنا روساريو بشخصيّة أنثويّة أخرى هي بلانش دوبوا في مسرحيّة تِنِسي وليمز «عربة تُسمّى الرغبة». كلتا المرأتين منذورتان للموت، أو ربّما مخلوقتان للموت في دنيا تتلاحم فيها دوافع الحياة والجنس والموت، إلا أنّ الفوارق كبيرة، لا بين الشخصيّتين بقدر ما هي بين الكاتبين. وليمز أعمق بما لا يُقاس، ولذا لم تتمكّن بلانش رغم بهائها السّاطع من سرقة الأضواء من الشخصيّات الأخرى أو من سرقة المسرحيّة من كاتبها، حتّى لو افترضنا وجود تماهٍ مُغوٍ بين وليمز وبلانش. ربّما كانت دوّامة شخصيّة روساريو أعمق وأشدّ انحدارًا لأنّ روساريو ابنة تلك الطّبقة المسحوقة التي لا سبيل إلى كسب اعتراف الطبقات الأخرى بها إلا بالعنف، إلا أنّ تلك الدوّامة ابتلعت فرانكو بقدر ما ابتلعت عشّاق روساريو الكثيرين. لا تتوق روساريو إلى الحب أو إلى استعادة الماضي، كما هي حال بلانش، إذ تدرك أنّ حياتها، مواصلة حياتها، لا تعني إلا تدمير الآخرين حتّى لو كانوا عشّاقًا. الحب يعني الدمار في دنيا روساريو. لعلّه كذلك أيضًا في دنيا بلانش، إلا أنّ بلانش أقرب إلى فراشة واهمة تظنّ النّور منجاةً فتحترق قبل أن تدرك الحقيقة. روساريو أقرب إلى ليليت التي تولد وتعيش وتستمدّ حياتها وتموت (أو ربّما لا تموت برغم موتها الظاهريّ) حين تلتهم الآخرين، القريبين قبل البعيدين، الأحباب قبل الكارهين، العشّاق قبل الأعداء. لعلّ هذا التّشابه محض تأويل شخصيّ حين قرأتُ عبارة روساريو التي تنتبه فيها إلى تلاحم كلمتي «الموت» (muerte) و«البَخْت» أو «النّصيب» (suerte). كنتُ قد انتبهت إلى هذا التّلاحم قبل أن أقرأ «روساريو»، حين كتبتُ عن بلانش التي تدرك هذا التّلاحم نفسه، وتُدمَّر بسببه. إلا أنّ روساريو لا تُدمَّر بسببه بقدر ما تكون هي - أيضًا - سببًا في دمارها الشخصيّ.

«وهناك تَقِرُّ ليليت، وتجد لنفسها مكانًا مريحًا»، كما نجد في «سِفر أشعيا»، وكما نجد في روساريو التي تمثّل تجسّد ليليت الكولومبيّ. تظهر ليليت بين الخرائب وفي العتمة محاطةً بالضّواري في مدينة أدوم التي سخط عليها الربّ وامتلأ سيفه دمًا من أنقاضها. روساريو ابنة مدينةٍ أخرى، بل عالمٍ كامل، يشبه أدوم، بل ربّما تضخّمت فيه أدوم لتصبح العالم بأسره. عالم من العنف والدم والضّواري والمخدّرات والجنس تظنّ روساريو أنّه مكانها، وأنّها ستجد فيه مكانًا مريحًا مثل ليليت لمجرّد أنّها كانت أقوى من غيرها، أو قضت على معظم أعدائها، أو حملت اسم «المقص»، إلا أنّ تلك العوالم كانت وما تزال محكومةً بالذّكورة، كما هي حال رواية فرانكو التي ترسم شخصيّة روساريو بعدسة الذّكور. لن نعرف أفكار وأحلام وذكريات روساريو الفعليّة لأنّها - برغم شخصيّتها الطاغية المرعبة - لم تحظ بفرصة التّعبير عن نفسها، بل بقيت أسيرة كليشيهات عشّاقها وكاتبها. لن نعرفها إلا حين نحاول تأويلها؛ حين نختلس التّفاصيل المبعثرة التي غفل عنها الكاتب وأبطاله الفحول؛ حين نقارن روساريو بغيرها. وهذه المقارنة تعني بالضّرورة ضعفًا في رواية فرانكو التي لا تقوى على الصّمود وحدها، حتّى بالاعتماد على عكّاز تهليل غارسيا ماركيس حين «مرَّر شعلته» إلى فرانكو. لعلّ تلك الشّعلة خبت، أو ربّما كانت عيوننا قد ضعفت ولا تتنبّه إلا لضوءٍ ساطع لا يبدو فرانكو قادرًا على خلقه. رواية «روساريو» ممتعة، سريعة، جيّدة. ولكن لا بدّ من إضافة «فقط» هنا. هي الرواية التي ترجمها غريغري راباسا، عرّاب أدب الـ (Boom) في الترجمات الإنكليزيّة، وترجمها مارك جمال إلى العربيّة، غير أنّ ذاكرتنا ستُرفِق دومًا اسم راباسا مع كورتاسار وماركيس، واسم مارك جمال مع دي أسيس وخوسيه ثيلا، وليس مع خورخي فرانكو حتّى وهو خالق روساريو.         


Share:

Saturday, February 20, 2021

حسن سامي يوسف: رسالة إلى ما فقدنا

 


 

 

  

 

انقرضت الرسائل من حياتنا الواقعيّة حيث تغوُّل وسائل التواصل. أو لعلّها أوشكت على الانقراض لصالح «التشات» الذي يعني ببساطة أنّ زمن الاسترسال والاستطراد والبوح قد انتهى، وبدأ زمن الرسائل البرقيّة القصيرة التي جعلت حياتنا أشبه بشريط الأخبار العاجلة في الشاشات. بل إنّ الرسائل لم تشكِّل عنصراً هاماً في أعمالنا الأدبيّة، في مقابل المونولوغات. وكأنّ التواصل قد انقطع حتّى قبل وصول وسائل «التواصل». قمنا بركن الرسائل في خزانة الذاكرة البعيدة بجانب الورقة والقلم والشّطب. باتت حياتنا ورقةً بيضاء نظيفة لا شوائب فيها؛ فقرات سريعة متلاحقة مسحوبة الدّسم مثل الملفّات الحكوميّة. كنّا نظنّ أنّ الرسائل انقرضت بعد أن طردناها من أبوابنا، إلا أنّ حسن سامي يوسف استعادها من الشبّاك وألقاها أمام أعيننا كي ندرك ما فقدنا. يعود حسن سامي يوسف برسالة أخرى، إلى سيدرا هذه المرة، بعد رسالته المذهلة إلى فاطمة قبل 25 عاماً. يعود بسيناريو روائيّ أكثر من كونه رواية سينمائيّة. يعود بعمل ضخم بالمقارنة مع الروايات القصيرة التي باتت الجنس المفضَّل في الكتابة وفي الترجمة. يعود بعمله الأحدث «على رصيف العُمْر» (دار «ورد»)، بعد أن كان قد شرَّح «عتبة الألم» روائيّاً، وكتب مجموعة من أعظم السيناريوهات التلفزيونيّة السوريّة والعربيّة منفرداً، وإلى جانب شريكه نجيب نصير. يعود يوسف بمسلسل روائيّ مكتوب، وهو الذي يتميّز بطريقةٍ متفرّدة في كتابة السيناريو، حيث ينفر من الجداول المعتادة في تقسيم الحياة إلى خانات، بل يكتب - كما يفكّر - في تدفّق لغويّ مُبهر من فرط تفاصيله الدقيقة الحارقة المؤلمة.

لعلّ أول سؤال سيطرحه قارئ «على رصيف العمر»: هل هذه رواية؟ السؤال صحيح جزئياً لأنّ هذه الرواية لا تشبه جحافل الروايات التي اجتاحتنا في السنوات الأخيرة. على أنّ متابع مسيرة يوسف الروائيّة لن يكترث لهذا التّصنيف، ولن يتوقّف عنده طويلاً لأنّ هذه الرواية امتدادٌ لكتابين سابقين يصدق عليهما السؤال بدرجة أكبر. لم تكن «عتبة الألم» رواية بالمعنى الصارم للتصنيف، وكذا الأمر بالنّسبة إلى «هموم الدراما» («الدرامة» كما يفضّل يوسف تهجئة الكلمة) التي أدرجها يوسف ضمن أعماله الروائيّة مع أنّها نُشرت ضمن سلسلة «الفن السابع» التي تصدرها المؤسسة العامة للسينما. كانت «هموم الدراما» أقرب إلى يوميات سينارست يحاول فهم معنى الدراما وتقديمها يصيغة مبتكرة إلى القارئ العاديّ مستنداً إلى حياته الشخصيّة وتفاصيله اليوميّة، فيما افترقتْ عنها «عتبة الألم» في كونها يوميات كاتب بات يتساءل عن جدوى السيناريو والكتابة بأسرها في زمن الاشتباكات اليوميّة الدّامية، مع حفاظه على إيقاع السيرة الذاتيّة. تبدو «على رصيف العمر» تكملةً للعملين السابقين، ولكنّها تنأى عن السيرة الذاتيّة الصريحة، وترتدي قناعاً - ولو هشّاً - في تقديمها «بطلاً» آخر لا يشبه كاتبه للوهلة الأولى، إذ هو أصغر سناً وأغزر نتاجاً، ولكنّه أقرب إلى «پورتريه للكاتب في صباه» وفي شبابه، ولكنْ ضمن سياق الحياة التي يعيشها الكاتب الكهل فعلياً.

قراءةُ «على رصيف العمر» ضمن سياق الجزءين الأول والثاني من هذه الثلاثيّة (الرباعيّة، لو أضفنا «رسالة إلى فاطمة») ضروريٌّ لفهم العمل الأحدث أكثر، من دون أن يعني هذا أنّها ليست رواية مستقلّة منفردة. الهموم ذاتها، وإنْ اختلفت السّياقات. كان أكبر هموم بطل «رسالة إلى فاطمة» و«هموم الدراما» تصوير مدة قدرة الكاتب، أيّ كاتب، وبراعته في التّحايل على المحظورات والرقابة، وفي التركيز على ماهيّة الكتابة حيث لا بدّ للكاتب فيها من احترام نفسه واحترام قارئه بصرف النّظر عن سقف الرقابة الخانق، وفي تقديم عمل يُشرِّح الشَّجَن ويحتفي به: شجن الحب والحنين والبعد والقرب والعلاقات المركّبة الهشّة في آن. غير أنّ المحظورات باتت أشرس في السنوات الأخيرة، لذا تسلَّلت نبرة غاضبة لم يعهدها قارئ أعمال يوسف الأقدم. بات يوسف (وأبطاله، أكانوا صورةً صريحةً أم قناعاً له) أمام اختبارات قاسية تلامس جوهر الهويّة في ذاتها. ما معنى أن تكون فلسطينياً في سوريا؟ («عتبة الألم»)، وما معنى أن تكون «رمادياً» في سوريا الاستقطابات الحادة؟ («على رصيف العمر»). قد تبدو القضيّة الأولى أكثر إيلاماً وأهميّة، حين تبرز القيود والحدود والجدران بكلّ فجاجةٍ أمام الكاتب الفلسطينيّ الذي يُضطر إلى مواجهتها ولعب دور الدفاع عن ذاته التي لا يمكن له، ولا لغيره، تقديم تعريف بسيط لها. أن تكون خارجياً، لامنتمياً، فيما أنت داخليٌّ عميق الانتماء في آن. بيد أنّ القضيّة الثانية أقسى، على الأخص حين يُغفِل يوسف عمداً الإشارة إلى هويّة مركَّبة لبطله الذي أمسى هذه المرة سورياً «صرفاً»، من دون أن يعني هذا انخفاض ضغوط الهويّة والكينونة ومعنى الوجود في بلادٍ يبرع أبناؤها في ابتكار التّصنيفات وتشييد الجدران العازلة.

ألقى يوسف ببطله أمجد، في «على رصيف العمر»، إلى حافّة الحدود «الرماديّة»، وحافّة الحدود الهشّة بين التّصنيفات. هو ابن العشوائيّات وبات ابناً لأغنياء الطبقة الوسطى، سينارست تلفزيونيّ حيث لا معنى للكتابة بلا تسويات ومساومات، وكاتب روائيّ لا وجود للتسويات في ذهنه، ابنٌ للطمات الموت المتلاحقة وعاشق للحياة التي يتمنّى عيشها بثمالتها، ابن لعلاقات الماضي وابن لعزلة الحاضر، والأهم، ابن لنساء كثيرات أسهمن ويسهمن في تكوينه وابن لنفسه وحدها في محاولاته الدائمة للتخلّص من أطياف الأنوثة التي تطوّقه ولا يُطيق فراقها. أما ضمن السياق السياسيّ، فهو العائش في وهم امتلاك هويّة مُسلَّم بوجودها وبماهيّتها، فيما هو مضطر يومياً، بل وفي كلّ لحظة من لحظات حياته، إلى تقديم كشف حساب لإعادة تكوين ماهية هويّته تبعاً لشروط التّحقيقات التّشكيكيّة التي يهواها السوريّون ويبرعون في ابتكار أسئلتها. أنت متَّهم في هويّتك حين تبقى طليقاً يما يقبع الآلاف في المعتقلات، وحين تبقى حياً فيما يُقتَل عشرات الآلاف قتلاً وقصفاً، وحين تكتب عن هموم شخصيّة في ظل جيوش الكتّاب العسكر حيث لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وحين تُجاهر بحبّ الحياة - أو بحبّ تفاصيل منها - فيما يتباهى الجميع بسموّ الركض نحو الموت. ولذا لا مفرّ إلا إلى الذاكرة، وإلى محاولة خلق حياة موازية. من هنا بالذات، يتّضح للقارئ بهاء صور الماضي في «على رصيف العمر» في مقابل الحاضر الكالح بكلّ تفاصيله الموجعة؛ جمال الفرار إلى الخيال؛ روعة اللجوء إلى أرض الذاكرة التي لا تستلزم جواز سفر أو قوارب موت/نجاة؛ متعة الرّكون إلى الأيام التي مضت بكلّ طيشها وقسوتها وحنانها وبساطتها؛ لذّة استعادة جوهر الفنّ في كتابة البوح الهامس وسط زعيق التّوثيق، واستعادة ما فقدنا حتّى لو خيالاً، أو في رسالة تُدوَّن في غير زمنها.    

  

Share:

Friday, January 22, 2021

أن نبقى، لا أن نعود: منيف و«لوعة الغياب»

 


 

بعد أن فرغ عبد الرحمن منيف من روايته الأخيرة «أرض السّواد» (1999)، اتّجه إلى جنس كتابيّ آخر: المقالة. كانت تلك المرحلة أشبه باستراحة بعد الجهد الهائل الذي بذله في كتابة «أرض السّواد» وما سبقها من روايات. كان منيف قد أصدر عام 1991 كتاب «الكاتب والمنفى»، ولكنّ ذلك الكتاب - على أهميّته العظيمة - كان تجميعاً لحواراته، فيما كانت المرحلة الجديدة مختلفة، وكانت أولى ثمارها كتاب «بين الثقافة والسياسة» (1999) الذي بدا أقرب إلى مفتاح للحياة المزدوجة التي عاشها منيف: السياسيّ السابق والروائيّ الحاليّ. ولعلّ هذا المفتاح لم يكن ليظهر لولا انغماس منيف مع سعد الله ونّوس وفيصل درّاج في سلسلة «قضايا وشهادات» التي كانت المعبّر الأكبر والأفضل عن الدور المزدوج للكاتب في الفضاء العام. ومن ثمّ اتّجه منيف إلى زاوية مهملة في الكتابة العربيّة: الكتابة النظريّة في الرواية وعنها. كانت الكتابة النظريّة، وما زالت إلى حدّ كبير، حكراً على النقّاد، إذ يفضّل الكتّاب الإبداعيّون النأي بأنفسهم عن التحدّث عن «مطبخ الكتابة»، والتفرّغ للكتابة الإبداعيّة في ذاتها. لم يطرح منيف نفسه ناقداً، بل فضَّل البقاء على الحافّة، بحيث كانت تجربته النقديّة النظريّة مُستمدَّةً من تجربته الإبداعيّة، كي يمنحنا عام 2001 ثلاثة كتب تبدو أقرب إلى ثلاثيّة متكاملة: «رحلة ضوء»، الكتاب الأبرز الذي طرح فيه منيف رؤيته الشخصيّة للكتابة، وللرواية على الأخص، «ذاكرة للمستقبل» الذي يبدو قريباً من «بين الثقافة والسياسة» مع تركيز أكبر على التاريخ بوصفه «ذاكرة إضافيّة للإنسان» على حدّ تعبيره الأثير، «لوعة الغياب» الذي لا يشبه أيّ كتابٍ من كتب منيف، ولا أحسب أنّ له مثيلاً في العربيّة، حديثاً على الأقل.

ينطلق كتاب «لوعة الغياب» من الموت، ثيمةً وتأسيساً لكتابة تنوس بين النّقد والذاكرة، بين الموضوعيّ والذاتيّ. ينطلق الكتاب من عنوانه البديع، إذ يشير منيف إلى أنّه استعار الكلمة الأولى من ديوان «لوعة الشّمس» لجبرا إبراهيم جبرا، فيما استعار الكلمة الثانية من القاموس البدويّ، حيث يستخدم البدو كلمة «الغياب» لا بمعنى التّلاشي، بل للدلالة على الغروب الذي سيتبعه شروق حتماً. الغياب هنا، وإنْ كان موتاً، غياب موقّت تُخلَق منه حياة جديدة، حين يشدّد منيف على أهميّة «المراكمة الإيجابيّة»، أي استثمار الموت بهدف قراءة موضوعيّة لتجربة من رحلوا كي نؤسّس عليها بناءً جديداً للجيل اللاحق؛ ذاكرة تتراكم لتبني، لا أن تكون محض فرصة للرثاء العابر الذي ينتهي بانتهاء مناسبته. وبذا لا يبتعد منيف من الفكرة الجوهريّة التي تقوم عليها أعماله كلّها تقريباً: سباق التّتابع، حيث يُسلِّم كلّ جيل أو كلّ شخصيّة اللواءَ للجيل أو الشخصيّة اللاحقة، كي تستمرّ دورة الحياة حتّى لو تخلَّلها موت عابر. ينتقي منيف هنا 26 شخصيّة أدبيّة وثقافيّة ارتبطت بالموت، إما حرفياً حين رحلت تلك الشخصيّات فكتبَ عنها منيف دراسات مهمّة، أو مجازاً في الاستثناء الوحيد الذي مثَّله حليم بركات، حيث كان عمله لا شخصيّته، هو المرتبط بالموت، في رواية/سيرة «طائر الحوم» (أما المقال السريع عن الذكرى التسعين لميلاد نجيب محفوظ فأُضيف لاحقاً). انتقاء الشخصيّات مرتبطٌ بذائقة منيف، إذ يشير إلى هذا صراحةً في مقدّمته للكتاب. سيفترض وجود الذائقة اختلافاً ضرورياً حيال مدى أهميّة أحكام منيف التي أسبغها على هؤلاء الكتّاب، إذ قد نتّفق أو نختلف بشأن الاحتفاء المبالغ به بشأن نزار قبّاني مثلاً، أو بشأن التّفاوت في عدد الصفحات المكرَّسة لكلّ شخصيّة من الشخصيّات. لا حلّ بشأن معضلة نزار، ولكنّ المعضلة الثانية مرتبطة برحيل منيف نفسه، إذ أضاف الناشر 12 أو 13 شخصيّة لم تكن في الطبعة الأصليّة للكتاب في حياة منيف (2001)، بحيث بدا الفارق واضحاً بين الرثائيّات السريعة لتلك الشخصيّات، وبين الدراسات العميقة المكرَّسة للشخصيّات الأربع عشرة الأولى.

ولكن فلنبق في ما نحن متّفقون عليه، أي الدراسات الأربع عشرة الأولى في الكتاب، حيث يمنحنا منيف دراسات عميقة ومهمة وفريدة تنتقل بسلاسة بين الثقافة، والأدب، والنقد، والذاكرة، والتاريخ. ولعلّ أهمّ دراستين في الكتاب هما الدراستان اللتان كرّسهما منيف لسعد الله ونّوس ولغائب طعمة فرمان، يمزج منيف فيهما ببراعة جميلة بين الذاتي والموضوعيّ، ليقدّم لنا جنساً أدبياً غير معترف فيه عربياً بكل أسف، إذ تندرج القراءات النّقديّة العربيّة بين تصنيفين  منفصلين بينهما هوّة كبيرة لا سبيل إلى رتقها: كتابة نظريّة جافّة منفّرة كما في الغالب الأعم من القراءات النقدّية، أو كتابة ذاتيّة تبدأ وتنتهي بالعلاقة الشخصيّة التي تربط الكاتب بالشخصيّة التي يكتب عنها من دون أدنى مسافة موضوعيّة، بحيث تتحوّل إلى احتفاء مجانيّ لا قيمة له بعد انتهاء مناسبته. يكتب منيف انطلاقاً من تجربته الشخصيّة، ولكنّه يوسّع آفاق تلك الكتابة لتسليط أضواء مهمّة على الجوانب المهملة من حيوات الشخصيّات موضوع الدراسة. تتحوّل رسائل غائب طعمة فرمان الشخصيّة إلى وثائق فريدة لنفهم شخصيّة فرمان وأعماله أكثر، على الأخص من ناحية التأثير المتبادل بين فرمان والمنفى الطويل والبعيد الذي أقصاه عن بغداد. وتتحوّل تجربة منيف الشخصيّة في مشاهدة مسرحيّة ونّوس «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» إلى نقطة انطلاق يُعمِّق فيها منيف دراسة علاقة ونّوس بالتّاريخ وبالسُّلطة، مع تركيز خاص على مسرحيّة «منمنمات تاريخيّة» وكتاب «عن الذاكرة والموت». وتتحوّل ذكريات منيف الشخصيّة مع جبرا إلى تحليلٍ دقيقٍ لبغداد الخمسينيّات بكلّ تيّاراتها السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة. على أن ذلك التّلاقي البديع بين الذاتيّ والموضوعيّ يصل إلى أقصى درجات اللوعة حين يتحدّث منيف عن حسين مروّة، لينطلق من سؤال مروّة العابر عن شخصيّة متعب الهذّال في رواية «التّيه» (الجزء الأول من خماسيّة «مدن الملح») بشأن الفارق بين العودة والبقاء، ليتحوّل مروّة إلى تجسُّد آخر من تجسّدات متعب الهذّال، أو العكس بالعكس، ويوغل منيف في تشريح معنى القتل ومعنى الحرب الأهليّة ومعنى غسيل العقول الذي يُنتج قتلةً بمقابل تنوير العقول الذي ينتج أجيالاً جديدة. ولكن يبقى سؤال مروّة ومنيف صادحاً: هل المهم أن نعود أم أن نبقى؟ لا نعلم النّتاج الذي كان منيف سيقدّمه لنا لو عاش هذه السنوات السبع عشرة التي تفصلنا اليوم عن رحيله. كان قد باح لمروان قصّاب باشي بأنّه لن يعاود كتابة رواية طويلة بعد «أرض السّواد»، ولكنّه قال العبارة ذاتها بعد «مدن الملح». ليس هذا مهماً، ولا فائدة من التحسّر. منيف لن يعود، ولكنّه سيبقى. هذا هو المهم.

 

 


Share:

Friday, January 15, 2021

ألكسندر بوشكن: روسيا قبل قرنين

 


 

 

 

لو سُئل القارئ غير الروسيّ عن أعظم كاتب روسيّ سيكون الخيار محصوراً بين تولستوي ودستوييفسكي، وقد نجد مهرطقين قلائل يذكرون تشيخوف، ومجانين نادرين يحتفون بنيكولاي غوغُل. ولكنّ الغالبية العظمى من الروس لن يتردّدوا في إجابتهم الوحيدة: ألكسندر بوشكن. ليس الأمر مرتبطاً بشحّ أعمال بوشكن بالرغم من سنوات عمره القليلة، إذ يصل عدد مجلّدات بعض طبعات أعماله الكاملة بالروسيّة إلى 20 مجلداً، بل المشكلة في شحّ الترجمات لا في العربيّة وحسب (وإنْ كانت المقارنات مخجلة مع غيرها من اللغات)، بل في اللغات الأوروبيّة الأساسيّة أيضاً. ولو أضفنا تردّد المترجمين أمام صعوبة ترجمة الشّعر، وهو مجال بوشكن الأكبر، سنكون أمام حالة فريدة في الأدب العالميّ، حين تكون أعمال أعظم كاتب في لغةٍ من اللغات هي الأعمال الأقلّ وجوداً بالمقارنة مع غيره. لا يتوفّر عربياً من أعمال بوشكن إلا مختارات نثريّة، وبعض الأعمال المسرحيّة القصيرة، مع استثناء فاضح لروايته الشعريّة «يفغيني أونيغن»، ولملاحمه الشعريّة، وحتّى لأشعاره الأقصر التي لا توجد إلا بترجمات عن لغات وسيطة مع استثناء أو اثنين. ولذا ستكون أيّة ترجمة جديدة من الأصل الروسيّ لأيّ عمل من أعمال بوشكن فرصة مهمة لنا كي نقترب أكثر من الشاعر الروسيّ الأعظم الذي أسَّس للأدب الروسيّ قبل مئتي عام. ومن هنا تنبع أهميّة كتاب «ألكسندر بوشكن: يوميات ومذكّرات» الذي صدر أخيراً بترجمة محمد خميس عن دار «الرافدين»، إذ يقدّم لنا مختارات من يوميّات بوشكن في العقدين الممتدّين من عام 1815 إلى عام 1835.

لن يجد القارئ تفاصيل كثيرة عن المشهد الأدبيّ الروسيّ، إذ لا يرد اسم غوغُل إلا مرتين أو ثلاثاً، واسما جوكوفسكي وكارامزن بضع مرات. وهذا ليس غريباً، إذ كان بوشكن هو المؤسِّس الحقيقيّ للأدب الروسيّ، وكان كلُّ من قبله مراحل تمهيديّة. نلاحظ أنّ إشاراته إلى جوكوفسكي هي إشارات الصديق للصديق أكثر من كونها إشارات الشاعر للشاعر؛ أما الاحتفاء بكارامزن فكان احتفاءً بالمؤرّخ لا بالشاعر. وحده غوغُل يحظى بملاحظات نقديّة احتفائيّة تخصّ الأدب، وكأنّنا أمام رؤيا بوشكنيّة ثاقبة ستُحدِّد لنا خارطة الأدب الروسيّ بعده. يغيب ليرمونتوف عن اللوحة البوشكنيّة، ولكنّه يصغر بوشكن بخمسة عشر عاماً، ولم تكن عبقريّته قد فرضت نفسها عام 1835. على أنّنا سنجد تفاصيل أدبيّة تخص بوشكن نفسه ابتداءً بقصاصاته النثريّة وملاحظاته النقديّة الأولى حين كان طالباً في الليسيه، وليس انتهاءً بنثره البديع في وصف رحلاته المتعدّدة في سنوات المنفى وما بعدها التي كنّا نتمنّى لو طالت أكثر لنغوص في توصيفه المدهش للطبيعة الذي سيورثه لتولستوي وتورغنيف اللذين أوصلاه إلى ذروة عصيّة على البلوغ. بموازاة الطبيعة سنجد البشر، حيث يدوّن بوشكن تأمّلاته أثناء انتشار الكوليرا في روسيا عام 1831. يبدو بوشكن هنا وكأنّه يدوّن أيامنا نحن بعد قرنين حيث الناس هم الناس في تذمّراتهم واعتراضاتهم على الحجر الصحيّ، وإنْ اختلف نوع الجائحة. سيلفتنا التّطابق مع تقلّب دورات الأيام، وستصدمنا آراء بوشكن العنصريّة حيال الشركس مثلاً، كما سيستوقفنا التّناقض العجيب في أفكاره الثوريّة بين الداخل والخارج، بين اليونان التي يتوق أن تثور وتنتصر ثورتها ضد الأتراك، فيما يبدو منعدم الحماس تقريباً في روسيا، على الأخص بعد إعدام رفاقه الديسمبريّين عام 1826، بحيث تتعاظم حيرتنا مع تعاظم غموض مواقفه من القيصر، ومن السياسات الداخليّة الروسيّة.

لعلّ منبع الغموض هو خوف بوشكن من وقوع دفاتره في الأيدي الخاطئة في ظلّ الرقابة القاسية التي تُطوِّق الجميع، أياً يكن مدى أهميّتهم السياسيّة أو الأدبيّة، حيث لا عصمة إلا للقيصر. ما يهمّنا هنا هو التوصيفات التفصيليّة التي يمنحنا بوشكن إياها عن كواليس القصور والحفلات والطبقة الأرستقراطيّة. هذه التأمّلات مهمّة لا لكونها بتدوين شاهد عيان وحسب، بل أيضاً لأنّ شاهد العيان هذا هو الأديب الروسيّ الوحيد الذي تمتّع بهذه المسافة القريبة من القيصر وحاشيته. سنقرأ عن الدسائس، وعن العفن المستشري في أوساط الساسة، وعن تقلّبات الأيام والموازين بتقلّبات مزاج القيصر، وعن الأدوار الخفيّة للنساء في صنع السياسات. يُبهجنا بوشكن وكأنّه يعتذر عن غموض مواقفه، ليقدّم لنا صورةً نادرةً عن تلك السنوات البعيدة، ويقول بشيءٍ من السخرية: «سأصف كلّ شيء بالتفصيل، ولمصلحة مستقبل والتر سكوت». لم يكن سكوت سيكترث لروسيا ولتاريخها في رواياته، ولكنّ بوشكن يدرك أنّ موقعه المميَّز والفرصة النادرة التي أُتيحت له في رؤية ما لن يعرفه غيره ستنفع كثيرين آخرين غير سكوت في إعادة رسم صورة روسيا النصف الأول من القرن التاسع عشر. ولا بدّ هنا من الإشادة بحواشي المترجم الكثيرة التي تُعرّفنا بمتاهة مُدوِّخة من الأسماء الروسيّة التي لا نعرف عنها شيئاً، والتي ربّما سنعرفها أكثر فأكثر مع تعاقب الترجمات عن الروسيّة التي نشطت في العامين الماضين بسرعة مخيفة أحياناً.

لا نلمح أدنى خوف لدى بوشكن حيال مستقبله، وكأنه كان يظنّ أن العمر سيمتد به طويلاً، بالرغم من لحظات طيشه الكثيرة التي كادت تودي به. نقرأ سخريته في 9 نيسان (أبريل) عام 1821 من ضابط فرنسيّ سابق تهرّب من مبارزة معه، فنحسّ بالألم لأنّ مبارزةً أخرى ستحدث بعد 16 عاماً مع ضابط آخر لم يهرب، وسينجح في قتل بوشكن قبل أن يبلغ الأربعين. ليس الخلود بالسنوات الطويلة حتماً. هذا ما يدركه بوشكن رغم طيشه، ويُدوّنه لنا في نصّ جميل هو «حوار تخيُّليّ مع القيصر ألكسندر الأول»، حيث يبدو بوشكن دليلاً نقدياً لأعماله، حين يعاتب القيصر على الاهتمام بقصائد عابرة بالرغم من جمالها، وتناسي أعماله الأهم: «رُسلان ولودميلا»، «أسير القوقاز»، «نافورة باختشيساراي»، وحتماً «يفغيني أونيغن». أطلق بوشكن نداءه حيال أعظم أعماله قبل قرنين، ولعلّنا نراها بالعربيّة قريباً، كيلا نكرّر خطأ القيصر.

 

Share:

Thursday, December 31, 2020

مقالات العام 2020 في «جدليّة»

 

 


1. بعد الهزيمة: إميل حبيبي وغسّان كنفاني

2. تكتبهم فتكتب نفسك: «فُرس» أسخولوس و«مُراد» تولستوي

3. الحب الأول: تورغنْيِف، بابل، نابوكوف

4. عن الأوبئة نتحدّث: أحمد خالد توفيق و«سافاري»

5. جَدِّفْ على الله ومُتْ: أيّوب وصاحبا العزلة

6. دبلان على أرضه: عن الليمون وأزمنة أخرى

7. مرآة الحياة: لماذا نقرأ شيكسپير؟

8. الملك هو الملك: قناع السُّلطة وجوهرها

9. شعبويّة؟ لا، شكرًا: سجالات طه حسين

10. إعادة خلق الأسطورة: 200 عام على الأدب الأميركيّ

11. رُسلان ولودمِلا: 200 عام على الأدب الروسيّ

12. فإنَّك كالليل: كيف نقرأ النّابغة؟

13. كوجه مسافر قطع دربًا بعيدًا: رحلة گلگامش الأخيرة

14. لا بواكي لنا: أن نعيش الفاجعة

15. ولا حتّى شعورًا بالفقد: دُمى هنريك إبسن

16. على الحافّة: حارسات الذاكرة والوجود والانتظار

17. قالت: حلوة أنا! وخلصت الحكاية

18. من قال إنّها ناقصة؟ روايات غسّان الأخيرة

19. كانت بلادًا جميلة: من حيدر حيدر وإليه

20. بس الخُبزة تنراد: عن غائب والنّخلة والجيران

21. ماذا ترون من الشُّبّاك؟ سجون إبراهيم صموئيل

22. محفوظ ومنيف: إعادة رسم الخرائط

23. وأطلَّتْ علينا القرون: عن الحبّ والموت (1)

24. يزعق منادي الموت: عن الحبّ والموت (2)

 

Share: