Tuesday, December 18, 2018

هكذا نلخّص حياته



1

«لو افترضنا أنّ حياة القردة العليا الممتدّة 5 ملايين عام تُعادل ساعةً واحدةً من زمننا اليوم، سيكون تاريخ الإنسان العاقل أقلّ من دقيقتين بقليل». كذا يقول الكتاب المفتوح أمامي الآن. كم سيكون عمر غسان كنفاني إذًا ضمن هاتين الدقيقتين؟ لا أظنّ أنّه كان سيكترث لهذه المعادلة البائسة، بل ربما كان سيضحك ويقول: «قرد بعينك» ويكمل ما انقطع من حديثه. ولو بقينا داخل الأرقام، سنكتشف أنّنا أخطأنا في حساب عُمر غسان. لا، هو لم يكن في السادسة والثلاثين، بل في الثانية عشرة فقط. كانت اثنتا عشرة سنة من الإبداع تكفي غسان ليحفر اسمه كأحد أهم الكتّاب العرب، وربما كان أهم الكتّاب الفلسطينيّين بلا استثناء. لا، ليست اثنتي عشرة سنة. بل أقل بكثير، إذا اقتطعنا منها ساعات النوم والصحافة والعمل السياسيّ المباشر والقراءة. غسان تحديدًا، كان يلملم ما ضاع من الوقت ليكتب. بل ربما عاش حياته القصيرة كلها يلملم ما ضاع من الوقت ليعيش. هكذا ربما نلخّص حياة غسان.

2


قبل ظهيرة يوم 8 تموز، كان غسان كنفاني يتعرق داخل سيّارته ويلعن الصيف والشمس. وكي يخفّف وطأة الحر القاتلة، تذكّر أنّه ليس في الخزان على الحدود في الصحراء، فنظر إلى لميس بجانبه وابتسم وتابع تدخينه. نظر إلى ساعته ليرى كم تبقّى من الوقت قبل الغروب. حرّ بيروت نعيمٌ مقارنةً بجحيم الصحراء. الصحراء بحر من نار. قلّب العبارة في ذهنه ليرى إن كانت تصلح لتُسجَّل في نصٍّ جديد، ولكنّها لم تعجبه فنفض رأسه ليطردها. فليترك البحر فقط، ويتجاهل النار. ربما لو كان غسان قادرًا على كتابة مصيره، لحذف النار من حياته وأبقى البحر. ولكنّ النار كانت قد اندلعت وتفجّرت وانتهى الأمر. تشظّى غسان، لا كما يفعل يوميًا بين الكتابة والقراءة والنكد والمرح وفلسطين وبيروت وآني والأولاد والروايات التي لم تكتمل والقصص التي اكتملت والمسرحيات التي لن تكتمل والأنسولين وفارس فارس وأبو فايز والجبهة الشعبيّة والسجائر. لا، هذه المرة تشظّى كما لم يتشظّ من قبل. تناثر جسده وتخلّص من القيظ أخيرًا، ونام. توقّف النبض ولكن لم يتوقف الوقت. كانت ساعة يده لا تزال تدق. هكذا ربما نلخّص حياة غسان.


3


ماذا لو كان هناك ثلاثة من فارس فارس؟ لن نطمع بأكثر من ثلاثة فقط، وإن كان مشهد الكتابة اليوم يحتاج إلى ألف كي يتابعوا كلّ ما يُكتَب، ويقرؤوه ويطلقوا أقلامهم اللاذعة. كان فارس فارس علامةً فارقةً في النقد الأدبيّ الصحافيّ.
لا نعلم لمَ اختار غسان هذا الاسم، ولا نعلم السبب الذي دفعه إلى ابتكار هذه الشخصيّة التي تحاول جاهدةً إقناع أنصاف وأرباع ومعدومي المواهب بترك الكتابة والبحث عن هواية أخرى حيث لا فارس فارس بالمرصاد. كما لا نعلم كيف كان غسان يوازن يومه بين أكوام التفاهة التي يقرؤها ليعلّق عليها، وبين كتابته الحادّة المصقولة كنصل. لو استطعنا تخمين تلك الأسباب والأمور، ستكون تلك أفضل نقطة انطلاق لدراسة شخصيّة غسان كنفاني ككاتب. أن تكتب بحرص خوفًا من قارئ ذكيّ يتربّص بك لا يهمّه اسمك بل نتاجك. أن تكتب خوفًا من ذاتك الأخرى التي لن ترحمك لو قلّلت من قيمة الكتابة. أن تكتب خوفًا من فارس فارس. أن تكتب خوفًا من نفسك. هكذا ربما نلخّص حياة غسان.

4

كان كيخوته يحاول استعادة «العصر الذهبيّ» في زمنٍ بات فيه الحديد هو كلّ شيء، زمن الرداءة. لم يكن غسان حالمًا مثل كيخوته، بل كان يدرك تمامًا كمّ الرداءة التي تخنق كلّ شيء. كان يعلم أنّ «عصر الحديد» سيستمر، ولن يفيده الحلم أو الحنين، لذا، وبكيخوتيّةٍ أكثر من كيخوته نفسه، كان غسان يحاول استخراج الذهب من الحديد. كانت أهميّة غسان، عدا عن كونه (وربما لكونه) مناضلًا، هي محاربة الرداءة في زمنٍ لا شيء فيه إلا الرداءة. كان يحارب الرداءة سياسيًا وفكريًا ونقديًا وأدبيًا، لا ليستعيد عصرًا ذهبيًا أفلَ وانتهى، بل ليخلق عصره بنفسه، لينقش اسمه بحيث يتحوّل العصر كله ليصبح هو عصر غسان. ومع ذلك، كان حريصًا على أن لا يتحوّل إلى صنمٍ أو أيقونة. هذا بالضبط ما كان يرفضه. كلّ ما كان يريده، ببساطة، هو أن يُدرك الجيل التالي أنّ ثمة ذهبًا تركه له جيل آبائه، وعليه أن يبني عليه كي يحاول تقليص الحديد/ الرداءة. أن تكون ضد الرداءة هو الشرط الأول والأخير لحياةٍ تستحق أن تُعاش. ولا معنى لأيّ «ربيع» أو حياة إن بقيت الرداءة أو تخفَّتْ. أن تعيش وتموت وأنت تحارب الرداءة. هكذا، بالتحديد، نلخّص حياة غسان.



نُشرت في جريدة الأخبار  اللبنانيّة 10 تموز/يوليو 2017

Share:

Friday, December 14, 2018

محمّد آيت حنّا: بحثًا عن الكتاب اللانهائيّ


 ماذا لو بات الجميع كتّابًا؟ ما مصير القراءة والقارئ؟ ما مصير المكتبة؟ وما معنى المكتبة أساسًا في زمنٍ يكتب فيه الجميع ولا يقرؤون أو يقرؤهم أحد؟ في زمن الصحافيّ-المواطن والكاتب-المواطن، أصبحت هذه الأسئلة مهمّة أكثر. هل يتنافى الحديث عن وجوب أن يكون الكاتب قارئًا في الأصل مع مفهوم «الحرية» الذي أصبح المصدر الذي يُحال إليه كلّ شيء في نقاشاتنا وأحاديثنا؟ ما المعيار هنا؟ ولو ارتضينا «الحرية» معيارًا، ألا ينبغي لنا أن نعيد الحقّ إلى أصحابه في الثقافة ونقول إنّ القارئ هو الأصل والمنبع؟ وفي عصر موت كل شيء، هل مات القارئ أيضًا، وماتت القراءة، وماتت المكتبة؟ انطلاقًا من هذه الأسئلة يولد كتاب «مكتباتهم» (دار توبقال) للكاتب والمترجم المغربيّ محمد آيت حنّا، ليحاول إعادة تعريف وتكريس المكتبة كمعيار ثابت في زمن التحوّلات، تحوّلات كلّ شيء حتى فعل القراءة بذاته.

     لا يندرج كتاب «مكتباتهم» تحت تصنيف بعينه، بل ينتقل بسلاسة بين التصنيفات ليكرّس (أو يعيد تكريس) «النص الحر». لسنا هنا أمام مقالات أو خاطرة فلسفيّة أو تحليل فكريّ، بل نحن أمام كلّ هذا في آن. نص قصير مشدود ببراعة ينطلق من الخاص إلى العام مع إبقائه على «جوهر» فكرة محددة. وتكاد تكون هذه سمة المفكّرين المغاربة عمومًا. ولكنّ ما يميّز آيت حنّا هو حسّ سخرية ذكيّ وسعة اطلاع هائلة توحّد بين المتناقضات وتصل الفنون أحدها بالآخر في محاولة لإنتاج نص لانهائيّ، تتغيّر دلالاته بتعدّد قراءاته. إذًا، يبدأ آيت حنّا رحلته من الموضع المهجور في الثقافة الكتابيّة العربيّة الحاليّة: من موقع القارئ (أو القيّم على المكتبة كما يفضّل)، مستندًا إلى اقتباسات أو أفكار لكتّاب عديدين نجد أسماءهم في العناوين، بينما ما يحدث فعليًا هو قلب هذه الأفكار لتصبح أفكار آيت حنّا نفسه. ولعل هذا هو هدف الكتاب الحقيقيّ: أن تقرأ كأنك تكتب، وتكتب كأنك تقرأ. يغرق القارئ في النص ويخرج بخلاصاته الخاصة، يعود إلى العنوان فيُباغَت لأنه لم يقرأ ڤالتر بنيامين أو الجاحظ مثلًا، بل قرأهما كما فهمهما آيت حنّا، ثم يعيد قراءتهما كما فهمهما هو. تتبدّل التأويلات، وتتغيّر الأسماء، ويتعاقب القرّاء، وتبقى المكتبة.
     المكتبة هنا ليست مجرّد «خزانة كتب»، أو فضاء تتلاقى فيه الأفكار، أو تتراكم فيه التجارب. إنها كلّ هذا علاوةً على كونها مفتاح التجربة القرائيّة على اختلاف تأويلاتها. «من يمتلك سرّها يمتلك العالم»، وهذه العبارة ليست محض مجاز، فالمكتبة كما يفهمها آيت حنّا، بل وكما يجدر بها أن تكون حقًا، معمارٌ برّانيٌّ وجوّانيٌ في آن. تتعاظم قيمة المكتبة بتعاظم التّوافق بين هيكلها الخارجيّ (الخشبيّ بالضرورة) مع سيروراتها الداخليّة حيث تتفاعل كيمياء الكتابة والقراءة: «قَطع هكتارات من الغابات هو بمثابة محو لذاكرة الأرض، لكنّه محو سينتهي جزء منه في شكل أدوات (أوراق وأقلام) تدوّن هذه الذاكرة نفسها». نتحدّث عن طاقةٍ إذًا، تتحوّل من شكلٍ إلى آخر محافظةً على جوهرها. وليست أهميّة هذه الطاقة/المكتبة مرتبطةً بمدى ضخامتها، بل قد تكون «ضآلتها» أحيانًا هي مصدر قوّتها. العلاقة بين الخارجيّ والداخليّ، بين الامتلاء والفراغ، بين ما ينبغي تركه وما يجدر طرده، بين الحيّز المكانيّ وسكّانه من قرّاء (وكلّ كتّاب آيت حنّا قرّاء بالضرورة)، بين الشفاهيّ والكتابيّ، بين الموت وماقبل الولادة، ... كلّ هذه الأمور، وغيرها، تُعرِّف المكتبة في عصرنا بل وتُعرَّف من خلال المكتبة.
     وبما أنّ ما يُقال هو ما ينمحي، وما يمتلئ هو ما يفرغ، والحضور هو الغياب بمعنى ما، لا بدّ من زمنٍ يتلاءم مع هذا الفضاء الديالكتيكيّ. لا بدّ من زمنٍ يتلاءم مع فضاء المكتبة المكانيّ. وهنا يكون الزمن دائريًا بالضرورة، ما من ماضٍ أو حاضرٍ أو مستقبل، بل ثمة زمنٌ أوحد متكرّر أزليّ كمكتبة بورخيس. زمن يتلاقى فيه ابن سينا وترانسترومر وباموق وبنعبد العالي وقارئهم المستقبليّ في فضاءٍ زمانيّ واحد. وبهذا أيضًا كان تقسيم الكتاب يتوافق على نحوٍ ما مع تقسيم المكتبة بذاتها، حيث يوجد منطقٌ خفيٌّ في الترتيب الذي يبدو عشوائيًا للوهلة الأولى. معظم الكّتاب هنا ليسوا مجرّد «حرفيّي كتابة» كما يريد منّا عصر التخصص الآن، بل هم «الحروفيّون» (إن كانت هذه الكلمة تعبّر عن المصطلح المراوغ Men of Letters). كتبوا، ويكتبون، في الأدب والسياسة والفلسفة والتاريخ وفي اللغة بذاتها، وقراءتهم تعني بالضرورة دخول حيّز النص العابر للتخصّصات، النص مابعد الحداثيّ الذي هو ليس إلا نص ماقبل الحداثة، نص ماقبل التصنيفات والأنواع الأدبيّة. النص الحر الذي يخلق تصنيفه، ويخلق قارئه.
     وبما أنّ البداية كانت من قيّم المكتبة، والطريق مُفخّخة بالمعاني المتبدّلة، لن يكون مفاجئًا أن تكون النهاية «قصة قصيرة» تروي حكاية الكتاب اللانهائيّ وحكاية المكتبة. يختتم آيت حنّا كتابه بإدراج قصة «المكتبة» للكاتب المغربيّ أحمد بوزفور التي تقدّم لنا «كتاب المكتبة»، الكتاب الذي «لا يُقرأ مرتين ... كالموت»، الكتاب الذي يبتلع قارئه ويبقى ملتصقًا به كلعنة أبديّة. هل هذا النص قصة فعلًا؟ وهل الكتاب مقالات فعلًا أم قصص قصيرة بمعنى ما؟ لن تهمّ هذه التصنيفات إلا القارئ العابر، أما القراء الحقيقيّون «غرباء السياق» فسيتابعون القراءة بحثًا عن ذلك الكتاب الذي لم يقرؤوه بعد، الكتاب اللانهائيّ، «كتاب الكتب» كما يؤكّد محمد آيت حنّا في مكتبته/«مكتباتهم».




Share:

Sunday, December 9, 2018

خمس قصائد - آن كارسن


آن كارسن


بلدة الرّبيع من جديد

«الربيع على ما كان عليه دومًا.»
قال عجوزٌ صينيّ.
هَسْهَسَ المطر عند الشّبابيك.
اشتياقاتٌ من مسافةٍ بعيدةٍ.
وصلتْ إلينا.

بلدة الحظّ

يحفر حفرةً.
ليدفنَ طفله حيًا.
بحيث يمكن له أن يشتري طعامًا لأمّه العجوز.
يومًا ما.
ارتطمَ رجلٌ بذهب.

عن الخيبات في الموسيقا
كان پروكوفييف مريضًا ولم يتمكّن من حضور الحفل الذي ستُعزَف فيه سوناتا الپيانو الأولى  - التي ألّفها - بيد عازف آخر. أنصتَ إليها على الهاتف.

عن شارلوت
اعتادت الآنسة برونتي والآنسة إميلي والآنسة آن على الفراغ من حياكتهنّ بعد الصلاة ثمّ يمشين ثلاثتهنّ، واحدةً تلو الأخرى، حول الطاولة في الرّدهة، حتى تقارب الساعة الحادية عشرة. مشت الآنسة إميلي ما في وسعها، وحين ماتت، واصلتْ الآنسة آن والآنسة برونتي المشي والآن يتوجّع قلبي حين أسمع الآنسة برونتي تمشي، تواصل مشيها وحيدةً.

«بلدة الحبّ المتفاوت» (ولكنّ الحبَّ كلّه متفاوت)
لو أَحَبَّني لكان رآني. عند نافذةٍ في الطابق العلويّ أخبط الزّجاجَ بجبيني.


Share:

Sunday, December 2, 2018

المؤامرة المرّيخيّة على الرواية العربيّة

استكمالًا للتّدوينة السابقة عن «أفضل 100 رواية عربيّة»، سأحاول فهم ما نعنيه بـ «الرواية العربيّة». وبالطبع، ما من بداية أفضل من البداية نفسها، أي متى ظهرت الرواية العربيّة. الأدب ابن لغته، وبذا فإنّ الرواية العربيّة تعني العمل الروائيّ المكتوب بالعربيّة بصرف النّظر عن قوميّة كاتبه، كما أنّ الرواية الروسيّة تعني العمل الروائيّ المكتوب بالروسيّة. أما الأعمال المكتوبة بلغة أخرى فهي بنت لغتها حتى لو كان كاتبها عربيًا. لن أدخل في سجال ما إذا كانت الرواية العربيّة الأولى هي «زينب» أم «غابة الحق» أم غيرهما. وسأعدّ «الساق على الساق» (1855) الرواية العربيّة الأولى بمعنى أسبقيّة النشر، بما أنّها أقدم نص روائيّ نعرفه، ولا أظن أنّنا سنجد عملًا سبقها، ولذا سنقول إنّ بداية الرواية العربيّة كانت في خمسينيّات القرن التاسع عشر. وبطبيعة الحال، فإنّ كثيرين سيعدّون ما أكتبه هنا حجارةً على الأشجار المثمرة أو إساءة لمسيرة عباقرة السّرد الذين ظلمهم العالم لكونهم يكتبون بالعربيّة. لا يعنيني الدّخول في نظريّات المؤامرة، لأنّني متأكّد من أمر واحد: ليست هناك «رواية عربيّة»، بل محاولات متفرّقة نادرة قُيّض لها النجاح بدرجات متفاوتة.
لو استعدنا تاريخ «العصر الذهبيّ» للرواية في العالم فسنكون في الفترة ذاتها تقريبًا، بفارق عقد أو عقدين في القرن التاسع عشر. أما الرواية كجنس أدبيّ فقد ابتدأت منذ القرن الأول الميلاديّ مع النصوص السرديّة الإغريقيّة التي ابتدأت بـ «كاليرخا» لخاريتون الأفروديسي، والنصوص السرديّة اللاتينيّة التي ابتدأت بـ «ساتيريكون» و«الحمار الذهبيّ» في القرن الثاني. ولستُ معنيًا الآن بالفروق بين الرومانس والرواية، أو مدى انطباق هذه النصوص على التعريف الغربيّ الضيّق للرواية «الحديثة» الذي يشير إلى أنّ تاريخ الرواية بدأ مع «دون كيخوته». لذا سنركّز على «العصر الذهبيّ» الذي نتّفق جميعنا على أنّه مرحلة نضج الرواية في بقاع من العالم ومرحلة انطلاقها في بقاع أخرى. يهمّني هنا الرواية الأميركيّة التي بدأت بالتّزامن تقريبًا مع الرواية العربيّة. لمَ إذن نجحت الرواية الأميركيّة وأخفقت الرواية العربيّة؟
أظنّ أنّ السببين الأساسيّين لإخفاق الرواية العربيّة هما: أولًا، لا نجد حضورًا للرواية في تاريخ الأدب العربيّ؛ ثانيًا (وهو شديد الارتباط بالسبب الأول)، لم تحاول الرواية العربيّة الخروج من الاستلاب الذي يربطها بالغرب، فأخفقت في إيجاد خصوصيّة لها، ولذا كانت دومًا مجرّد مرآة مشوّهة للرواية الأوروپيّة والأميركيّة اللاتينيّة على الأخص. لا حضور للرواية في تاريخ الأدب العربيّ بمعنى أنّ الرواية كنص سرديّ طويل ليست من «تراث» العرب، بخلاف الشعر والقصة وحتى المسرحيّة. وحتّى النّصوص السرديّة الأطول في التراث الأدبيّ مثل «ألف ليلة وليلة» و«رسالة الغفران» و«حيّ بن يقظان» ليست إلا قصصًا قصيرة، أو ربّما «متتالية قصصيّة» لو استعرنا التعبير الرائج اليوم، وهي أقرب إلى اصطلاح «أخبار» الذي يعرّف هذه النصوص بدقّة أكبر، كما هي الحال مع «الأغاني» و«البخلاء». ولو أضفنا خلّو التراث من ملحمة شعريّة فسنكون أمام تراث أدبيّ ينفر من الإسهاب، ويفضّل القصة التي لا تتجاوز مسافة ليلة واحدة بحيث تكون أسمارًا بالمعنى الحرفيّ للكلمة. الأدب العربيّ ابن الليل، أكان شعرًا أم قصة، ينتهي مع طلوع الفجر. أما الآداب الأخرى كلّها فيبدأ نضجها من الملاحم الشعريّة، كقصيدة طويلة جدًا لا تبدو أطول القصائد العربيّة أمامها أكثر من حلقة واحدة في مسلسل شعريّ طويل. ومع انتقال الأدب من الشعر إلى النثر، لم نجد قطعًا مع الماضي، فتابعَ كلّ أدب مسيرة ماضيه مع تغيير أداة التعبير لتصبح الملاحم شعريّة ممتزجةً بالنّثر، قبل أن تصبح نثريّة بالمطلق، وتأخذ الشكل الذي اصطُلح عليه باسم «رومانس» ومن ثمّ «رواية». وكذا الحال مع الأدب العربيّ الذي بقي أمينًا لتراثه الشعريّ وتراثه الاختزاليّ غير الميّال إلى الإسهاب. ربّما يمكننا استثناء السّير الشعبيّة التي ظهرت في وقت متأخر ولكنّها ليست نثرًا بالمطلق، بل تبدو مرحلة وسيطة بين الملاحم الشعريّة والرومانس، ولم يُقدَّر لها أن تكون نقطة انطلاق لجنس أحدث إلا في العقود الأخيرة، وبنتائج مخيّبة. وبالتالي، بدأت الرواية جنسًا غريبًا وبقيت على غرابتها هذه إلى اليوم. ومن هنا يمكننا التقاط سرّ أنّ معظم المحاولات الروائيّة ما هي إلا قصص طويلة ممطوطة في أفضل الأحوال، أو مسخ لروايات عالميّة في محاولة لإنتاج رواية عربيّة ليس فيها من العربيّة إلا اسمها.
 وهنا سنصل إلى النقطة التي يصرّ البعض على إشكاليّتها. لا أعلم ما سرّ اللوثة النقديّة التي انتشرت منذ عقدين وأشعلت الحرب حيال العبقريّ الذي ابتكر عبارة «الرواية ديوان العرب»، وكأنّ مجرّد انتشار الرواية يعني سحب البساط من الشّعر. ولكن لنسأل بصراحة: هل الرواية هي ديوان العرب فعلًا؟ ما المعبّر الأكبر عنّا، عن حياتنا وهمومنا ومشكلاتنا ومآسينا وأزماتنا، الشعر أم الرواية؟ وما المؤثّر الأكبر في مسيرة الأدب العربيّ، شعره ونثره؛ هل هي الرواية أم الشعر؟ ولو استعرنا العبارة الشهيرة: هل خرجنا من معطف شهرزاد أو الشّدياق أو محفوظ أم من معطف امرئ القيس والمتنبّي؟ خرجنا من معطف الشّعر بكل تأكيد. تسلّلت الغنائيّة الشعريّة (وشعرنا القديم كلّه غنائيّ تقريبًا) إلى الرواية حتى بعد أن اختفت من الشّعر. تسلّلت إلى الرواية أكثر حتّى من القصة التي تابعث إرثها بدأب مدهش وواصلت دربها التجريبيّ الذي يفوق درب الرواية بما لا يُقاس.
صحيح أنّ الظروف السياسيّة والاجتماعيّة الخانقة خلقت قيودًا كثيرة أخّرت تطوّر الرواية، ولكنّها في الوقت ذاته لم تؤخّر تطوّر القصة أو الشعر. حصرت الرواية العربيّة نفسها في خانة الطبقة الوسطى المثقّفة بحيث باتت جميعها تقريبًا تكرارًا للثيمة ذاتها. الأبطال كلّهم أحفاد الفارياق ومحسن، والآباء كلّهم أحفاد أحمد عبد الجواد. وحتّى حينما حاول البعض التنويع وإدخال الرواية إلى عالم المهمّشين، بدت الشّخوص أقرب إلى مهمّشي الأفلام الغربيّة، والثوريّين أقرب إلى غيڤارا. ما الشخصيّة الروائيّة التي يمكن لنا الإشارة إليها بثقة وعدّها شخصيّة من لحم ودم ولها سماتها المميّزة، وليست مسخًا من روايات الآخرين؟
وهنا نأتي إلى السبب الثاني المرتبط بالأول: رواياتنا مسخ لروايات الآخرين. بما أنّ ماضينا يخلو من الرواية، كان من الطبيعيّ أن نستعير قوالب الروايات الأخرى، روسيّة أم أميركيّة لاتينيّة أم فرنسيّة. وحينما أحيا النقّاد والكتّاب الغربيّون «ألف ليلة وليلة» ركضنا لنمسخها أيضًا من دون أن نقرأها أو نفهم منطقها. استثمرها الغربيّون لتنويع فضاءاتهم السرديّة فيما مسخناها نحن بتطبيق قالبها كما هو. حاول الشّدياق حفر طريق جديدة فلم يجد من يتابع مسيرته التي انتهت بالنّسيان. سنجد محاولات جادة نادرة لدى إميل حبيبي وعبد الرحمن منيف وجمال الغيطاني ثم مُسخت بدورها على يد روائيّين آخرين دمّروا أصالة الابتكار وأنتجوا نصوصًا هجينة رديئة.  لمَ يكون مُقدَّرًا علينا دومًا أن نقرأ حياتنا عبر عدسات الآخرين؟ لمَ يُقدَّر عليّ أن لا أحس بحربي إلا حين أقرأ حروب الأوروپيّين؟ لم لا أعرف معنى الحب إلا عبر كلمات عشّاق أميركا اللاتينيّة؟ لمَ ينبغي أن أفهم تناقضات حياتي من خلال نقاشات الروس؟ هل يكفي التذرّع بضيق الحياة السياسيّة كي أبرّر استعارتي لآلام الآخرين؟
سيمنّ الله علينا دومًا بـ «خفيفي ظلّ» عديدين يسيئون فهم ما قيل. ما قلته ببساطة هو رؤيتي الشخصيّة لأسباب إخفاق الرواية العربيّة، وبقائها كأدنى نتاجات الأدب العربيّ. ولا أعني بحال من الأحوال نسفي لإمكانيّة ظهور رواية عربيّة مميّزة في المستقبل. تشاؤمي يخصّني وحدي بكل تأكيد. ولكنّ عدم الاعتراف بالمشكلات لن يولّد إلا روايات أسوأ من سابقاتها، على الأخص بعد انتشار الجوائز التي لا تسوّق إلا الأدب الرديء مسحوب الدّسم. سيتظارف أحدهم (وهذا حدث بالفعل) ليقول إنّ السينما فنّ دخيل أيضًا وكذا قصيدة النثر. السينما فنّ دخيل على الجميع، وبذا فهي تشبه الشّعر حين كان للجميع بلا تمييز، وطوّره كلّ شعب بما يلائمه (ولنبق في هموم الرواية الآن وما من داع لاستحضار خيباتنا السينمائيّة أيضًا)؛ أما قصيدة النثر فهي شعر في المقام الأول، ليست إلا تطوّرًا آخر من تطوّراته وليست فنًا مستقلًا. وسنجد اعتراضات جديّة بطبيعة الحال تحاول إثبات روائيّة «ألف ليلة وليلة» أو حتّى المقامات والسّير الشعبيّة. ولكنّ هذا مستوى آخر من النّقاش ربّما أعود إليه لاحقًا.  
Share:

Saturday, December 1, 2018

أفضل 100 رواية عربيّة؟


أعادت لائحة مجلّة بانيپال لأفضل 100 رواية عربيّة تذكيرنا باللائحة القديمة التي أعدّها اتّحاد الكتّاب العرب (ضمّت 105 روايات فعليًا). والأهم أنّها أعادت السّجال الذي ينبغي التحدّث فيه وعنه بصراحة. ما معايير الاختيار، وكيف نُعرّف معنى «الأفضل»؟ وهنا يمكننا القول بشيءٍ من التّعميم إنّ اللائحتين تشبهان المؤسّستين اللتين أعدّتهما، بمعنى أنّ لائحة اتّحاد الكتّاب تشبه طبيعة المؤسّسة «العروبيّة» وتوجّهاتها بحيث شملت الخيارات الدول العربيّة كلّها مع اشتراط أن تكون حصّة كلّ كاتب رواية واحدة فقط، أما لائحة بانيپال فتشبه توجّهات المجلة من حيث اهتمامها بقارئها الغربيّ أكثر من انشغالها بجمهور عربيّ، ولذا طغت على الخيارات روايات الجوائز، على الأخص جائزة «بوكر العربيّة» (لا ينبغي أن ننسى هنا إصرار تلك الجائزة على صفتها «العالميّة») كما أنّها سمحت بوجود أكثر من رواية لكاتب واحد، فزادت بهذا حدّة الإشكاليّة. ولكنّ هذه الاختلافات ليست هي القضيّة الأهم، إذ يمكن لأيّ قارئ إعداد لائحته الخاصة التي تناسب ذائقته ولا تتوافق مع ذائقة غيره بالضرورة. هل يكفي استبدال رواية برواية كي نحل المشكلة؟
لنتناول الموضوع من زاوية أخرى، ولنكتف بالعنوان العريض فقط: «أفضل 100 رواية عربيّة». ولنحاول اكتشاف ما تعنيه هذه الكلمات القليلة، لعلّنا نصل إلى مغزى اختيار هذه الروايات دون غيرها. ما معنى «الأفضل» هنا؟ هل تعني الأجمل أم الأشهر أم شيئًا آخر تمامًا تفرضه الظروف السياسيّة والاجتماعيّة وما تحمله من نظريّات نقديّة متضاربة كأن نشترط وجود كوتا للشباب أو النّساء؟ هل الأجمل تعني الأشهر بالضرورة، وفي الوقت ذاته هل الأجمل تعني الأفضل؟ لماذا إصرار النقّاد على «الثلاثيّة» كرواية محفوظيّة حاضرة دائمًا وليس «الحرافيش» مثلًا؟ هل الثلاثيّة أفضل منها حقًا أو أفضل من «أولاد حارتنا» أو أفضل حتّى من «القاهرة الجديدة» أو «اللص والكلاب» أو «حديث الصباح والمساء»؟ هل تكفي شهرتها وحدها كي نختصر تجربة محفوظ بها؟ وبالمثل هل «مدن الملح» هي أفضل روايات منيف؟ ماذا عن «أرض السواد» التي تفوقها إتقانًا بدرجات، ماذا عن «النهايات» التي لا يتذكّرها أحد؟ هل هذا هو الواقع فعلًا أم هو الاستسهال فقط؟ هات رواية لمحفوظ: الثلاثيّة. هات رواية لغسّان كنفاني: رجال في الشمس. هات رواية لربيع جابر: دروز بلغراد! وهل هذه الروايات بدورها أفضل من الروايات التي جاءت قبلها أو بعدها؟ هل «دروز بلغراد» أفضل من «عودة الروح»؟ أحاول تطبيق النظريّات النقديّة كلّها وأعجز عن فهم الأفضليّة هنا. وبالمقابل، هل جبّور الدويهي أفضل من منيف كي يحظى بروايتين؟ هل سعود السنعوسي أفضل من فارس الشّدياق كي يحتلّ مكانًا ليس له؟ هل هو أفضل من إسماعيل فهد إسماعيل؟ هل روايات خالد خليفة أفضل من روايات فواز حدّاد؟ هذه الأسئلة كلّها مشروعة كي نحاول فهم معنى «الأفضل». طيب، ماذا لو كانت 5 أو 6 روايات لكاتب واحد أفضل من روايات 6 كتّاب؟ هل نظلم الأول كي «نطبطب» للآخرين؟ ماذا لو كانت الروايات الأفضل مغاربيّة حصرًا، هل ينبغي أن نضيف الروايات المشرقيّة من أجل «التوازن»؟
هل الأفضل تعني الأهم؟ هل تكفي الجرأة أو أهميّة الطرح كي تؤهّل «رواية» ما للمقارنة مع روايات أخرى أجمل بكثير ولكنّها لا توافق هوانا السياسيّ أو بوصلتنا الأخلاقيّة أو قضايانا الكبرى التي عجزنا عن حلّها في الواقع فقرّرنا شنّ الحرب عبر تدمير الفن؟ هل تكفي جرأة «الخبز الحافي» لإدخالها في الروايات العظيمة؟ هل هي رواية حقًا أم سيرة؟ هل يكفي «صدق» روايات الربيع العربيّ كي تدخل إلى الفن؟ هل تكفي البيوت المهدَّمة والبيانات السياسيّة المُغلَّفة بقشرة حدّوتة ما كي أقبل بها كأعمال فنيّة؟
لنوسّع السؤال قليلًا: هل الأفضل هو وفقًا لمعايير الرواية العربيّة حصرًا أم المعايير كلّها بلا تقييدات؟ وهنا، نأتي إلى الكلمة الثانية من العنوان: «100»، ولنسأل بصراحة: هل هناك 100 رواية عربيّة تستحق صفة «عظيمة» التي يمكن لنا ببساطة إطلاقها على روايات يابانيّة وأميركيّة ومكسيكيّة وأفريقيّة؟ هل تصمد أعظم رواية عربيّة أمام أبسط مقارنة مع روايات الآخرين، أيًا كانوا، شرقيّين أم غربيّين؟ حداثيّين أم كلاسيكيّين؟ أحاول شخصيًّا أن أتذكّر الروايات العربيّة التي تستحق إفراد مكانة مهمّة لها فأعجز عن تجاوز رقم 30 في أفضل الأحوال. هل هي مشكلتي وحدي؟ هل تكفي تبريراتنا المكرورة عن قصر التجربة الروائيّة العربيّة؟ طيب ماذا عن الرواية الأميركيّة التي لا تسبقنا إلا بعدة عقود فقط؟ ماذا عن الرواية الأفريقيّة التي ولدت بعد الرواية العربيّة بكثير؟ نعود إلى السؤال الأزليّ دومًا: لمَ تقدَّم غيرنا وأخفقنا نحن؟ ولكنّ هذا السؤال يحتاج إلى مقال منفصل يتناول معنى «الرواية العربيّة».

Share: