Thursday, November 19, 2020

عمر أميرلاي: 40 عاماً من «الاستلهاب»

 


 

 

هل ثمة مغزى من الكتابة عن شريط تسجيليّ بعد أكثر من 40 عاماً على إنجازه؟ ربما ينبغي إضافة عدة كلمات إلى هذا السؤال ليكون له مغزى بذاته. شريط تسجيليّ سوريّ. 40 عاماً على إنجازه ومنعه من العرض. هكذا سيستقيم السؤال إلى درجة كبيرة. بل وربما لا معنى للحديث عن شريط «الحياة اليوميّة في قريةسوريّة» (82 دقيقة، 1974) دون التطرّق إلى حياة مبدعَيْه سعد الله ونّوس (1941-1997)، وعمر أميرلاي (1944-2011). شارك ونّوس في إعداد هذا الفيلم بعد إخفاق محاولته «الانقلابيّة» المسرحيّة بعد عرض مسرحيّته «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» (1968، 1971). وأخرج أميرلاي هذا الفيلم إثر خيبة أمله بعد شريطه التفاؤليّ الأول «محاولة عن سدّ الفرات» (1970). ولذا كان فيلم «الحياة اليوميّة» نقطة انطلاق جديدة لمبدعيه، يمكننا فيها تلمّس جذور أعمالهما اللاحقة التي أوغلت في التشريح القاسي للمجتمع السوريّ انطلاقاً من «العقد المُغيَّب» في التاريخ السوريّ الراهن، أي عقد السبعينيّات. هنا بالذات تكمن أهميّة هذا الشريط التسجيليّ الذي يعتبره البعض أول شريط تسجيليّ عربيّ.

يحدّثنا ونّوس عن الظروف التي رافقت إنجاز الشريط في مقالته «سيرة فيلم موقوف» (1975)، حيث يشير إلى أنّ العمل استغرق عاماً كاملاً على ثلاث رحلات بين نيسان (أبريل) 1971، ونيسان (أبريل) 1972، إذ «وجدنا أنفسنا منذ بدء العمل مضطرين للقيام بمهام الإحصاء والدراسات الميدانيّة والبحث الاجتماعيّ، إلى جانب الهاجس الفنيّ في بناء الفيلم بأسلوب واضح، ومضمون صائب». لم يكن الفيلم، إذاً، مجرد محاولة سينمائيّة للتوثيق، بل كان فعلياً محاولة تأسيس عمل فنيّ «ملتزم»، فيما لو أردنا استعادة هذا المصطلح الذي أوشك على الانقراض. ويبدو هذا واضحاً منذ اللحظات الأولى في الشريط، حيث سيجد المشاهد نفسه وكأنه داخل عقل كارل ماركس وهو يشرّح معنى «الاغتراب»، حيث يبدو المسحوقون وكأنهم يعيشون في كوكب منعزل عن ثمار إنتاجهم التي تعبوا طوال أعوام في زراعتها بحيث يراكم الملّاكون رأس المال فيما يحصد الفلاحون الرياح والرمال. مشهد ماركسيّ بامتياز؛ الفارق هو أنّ ما يحدث في الشاشة والواقع لم يكن تمهيداً للثورة، بل هو إحدى نتائج «ثورة آذار» عام 1963، وبعد تطبيق الإصلاح الزراعيّ.

تذكّرنا بعض لقطات الشريط في صحراء قرية «مويلح الجنوبيّ» بالطبيعة «غير الصامتة» التي سنجدها في أعمال يوسف عبدلكي لاحقاً: الجمجمة بعيونها الجوفاء، العظام العارية، علبة السردين الصدئة المفتوحة على الخواء، حذاء مرميّ بإهمال، والنظرات الاتهاميّة القاسية في عيون الجميع. عناصر مرتبطة بالضرورة، وتزيد وطأة الألم الثقيلة حين نراها غارقة في العواصف الرمليّة الجارحة، أو مغروسةً في الأرض المتشقّقة الجافة التي تنتظر معجزة الطوفان. الشيء الوحيد المتحرك في هذه الصورة الساكنة هو الآلة بضجيجها الجنونيّ، وحركتها الرتيبة الصارمة، ودلالاتها السلطويّة التي تتقاطع مع الرحى التي تبرز في لقطات سريعة، حيث يتم سحق الجميع بلا استثناء.

القولبة تطغى على كل الأشياء والأشخاص بحيث نجدهم مقسومين إلى نمطين ثابتين: عناصر السلطة من شرطة ومسؤولين سياسيّين وثقافيّين يكرّرون كليشهيات جامدة بإيقاع مونوتونيّ ذي دلالة خطابيّة عسكريّة جليّة، أما باقي «الشعب» فهم ذوو ملامح جامدة، وصوت مشبع بالانكسار، فيما عيونهم تبرق للحظة بتحديقة قاسية تختصر جميع المعاني. ليس ثمة فارق واضح بين السياسيّ الذي يؤكّد على أنّ «الثورة غيّرت حياة الفلاحين تغييراً فعلياً» وبين الضابط الذي يبرّر القمع لأن «المواطن ليس جاهلاً فحسب، بل يحمل شيئاً من الخبث»، وبين الحديث المضحك للمسؤول الثقافيّ عن سيارة الوحدة الثقافيّة التي ستعرض فيلماً سينمائياً وثائقياً عن «القطر العربي السوري في لقطات جيدة»، فيما تبدو «اللقطات السيئة» المقابلة واضحة على ملامح الفلاحين وهم ينصتون إلى محاضرة عن أهمية السينما في قرية ليس فيها جهاز راديو. تبدو الستارة البيضاء/الشاشة عند عرض الفيلم الدعائيّ وكأنها جهاز تخدير مركزيّ سيُستبدل بالتلفزيون بعد سنوات، بحيث تتأكد السلطة من وصول الرسالة الرسميّة التخديريّة إلى الجميع.

وحده الأستاذ كان العنصر المتبدّل في هذه الصورة الثابتة. كان أقرب إلى صورة السلطة حين كان يُلقي الدرس في الصف كبلاغ عسكريّ، وبثياب أنيقة وذقن حليقة أمام الكاميرا ويركّز على أهميّة التنوّع الغذائيّ في قرية لا تعرف سوى الخبز والشاي طعاماً؛ فيما بدا أكثر عفويّة وتحرراً في غرفته ببيجامته و«شحاطته» التي لم تتوقّف عن الاهتزاز. كانت الكاميرا هي من تتحدث فعلياً، وكانت الشاهد المتنقّل من فضاء مكانيّ إلى آخر، وصولاً إلى الحافلة المتّجهة إلى المدينة، حيث نجد الجميع مسافراً لسبب وحيد، وإن تنوّعت أشكاله، هو الشفاء من «الاستلهاب»، الذي يبدو عند تكرار المفردة، وكأنه هو السبب الحقيقيّ لكل العلل في تلك البلاد.  

الصمت وسيلةً للبوح هو ما تركّز عليه كاميرا عمر أميرلاي، حيث سيحاكم المشاهد بنفسه أقوال الجميع بخاصة المسؤولين الذين يؤكّدون على «نقص وعي» الفلاحين. بينما سنجد فعلياً بأنّ الخطاب العفويّ «غير الخشبيّ» الذي يتفق عليه المسحوقون الأميّون هو المحكمة الحقيقيّة لمزاعم السلطة التي تريد «تصعيد العشائريّة للصالح العام»، بينما يشير الفلاحون بعفويّة إلى وجوب القضاء عليها، وحين يؤكّد المسؤولون النقابيّون بأنّ الإصلاح الزراعيّ يحقّق نتائجه، فيما تلتقط الكاميرا «تغريبة» الفلاحين إثر طردهم من الأراضي التي لا تزال تحت سيطرة الملّاكين.

لا خلاص من هذا الجحيم إلا بطوفان يجرف كلّ شيء. هذا ما ينبئنا به شريط «الحياة اليومية في قرية سوريّة» الذي يتماهى مع صرخات اللوعة في بلد لا حاجة فيه للاستطرادات، إذ إنّ الاختزالات كافية جداً: لا حزب آخر سوى «الحزب»، ولا جبهة سياسية سوى «الجبهة»، ولا نقابة فلاحيّة سوى «الاتحاد». كلّ الصفات الأخرى نافلة وزائدة عن الحاجة. ينتهي الفيلم كما بدأ، بأطفال يذرون الرمال في العيون الجوفاء لحيوان نافق في الصحراء، ثم يجرّون هيكله العظمي على الرمال، بحيث يفتحون طريقاً جديداً ستردمه عاصفة رمليّة أخرى على إيقاع الآلة/الرحى التي لا تتوقف. «هذه بلادنا، وكل متفرّج لا يغمس يده في الطين جبان أو خائن». تبرق الكلمات الأخيرة لمبدعَيْ الفيلم، قبل الإظلام الأخير.  


نُشرت في جريدة «الأخبار» اللبنانيّة 11/2/2015    


Share:

0 comments:

Post a Comment