كيف
لشاعرةٍ تُعرِّف نفسها بأنّها «الزَّبَد البحريّ الفاني» أن تبلغ الخلود؟ لعلّ
أبلَغ الشِّعر أكذبه كما يقول العرب. هل ثمّة مُقابِل روسيّ لهذه العبارة؟ لا
نعلم. ولعلّ صاحبة العبارة نفسها لا تعلم بالرغم من كونها روسيّة. عاشت مارينا
تسفيتايفا عُمرها كلّه في تأرجحٍ مؤلمٍ بين أن تكون البحر وأن تكون الزَّبَد. هي
تدرك حتماً أنّ الزَّبد ليس للشعراء؛ ليس للشعراء الخالدين بطبيعة الحال. غير
أنّها تُراوِد الفناء منذ مراهقتها التي شهدت ولادة بواكير أشعارها، تُراوِد
الفناء كي تنال الخلود. تُباغتنا تلك المراودة الحارقة منذ القصائد الأولى التي
نقرؤها في كتاب «بعضُ حياةٍ وشعر» الذي صدر أخيراً عن دار «التّكوين» بترجمة نوفل
نيّوف الرّهيفة كما عوّدنا دوماً. تُباغِتنا المراودة التي تبوح بها ابنة السابعة
عشرة: «يا إلهي ... أنتَ مَنْ وهَبْتَني طفولةً أفضلَ من خرافة/ هَبْني الموتَ في
السابعة عشرة». هُراء مراهقة؟ لا، أبداً؛ إذ نعلم من اعترافات تسفيتايفا نفسها قبل
انتحارها بعامين أنّ كلَّ ما أحبَّتْه، أحبَّته قبل السابعة، وأنّ كلَّ ما يعنيها
ويمنحُ وجودَها قيمةً وأهميّةً كان قبل السابعة: اللعب بالشِّعر قبل أن تُدرك
ماهيّة الشِّعر؛ اللعب باللغات (التي كانت تتحدّث ثلاثاً منها قبل السابعة) قبل أن
تُدرِك بلاغة اللغة. استجاب الله لأمنيتها بعد أكثر من ثلاثين عاماً، فوهَبَها
الموت انتحاراً وهي في التاسعة والأربعين، بعد أن فقدَتْ أحبّاءها كلّهم موتاً
ومنفى وبُعداً، زوجاً وعشاقاً وأطفالاً وأهلاً وأصدقاء، وبعد أن خبتْ شمسُها
الشِّعريّة وكادتْ تأفل، لتعود كما كانت تُحبّ أن تكون على الدوام: «ظلّاً لظلّ»،
من دون أن تنتبه إلى مفارقة أنّ الأضواء الساطعة التي سعتْ هي بكلّ إرادتها على
مدار أكثر من عقدين كي تعيش تحتها، ستُبدّد الظّلال، وستُبدِّد كينونتها في آن.
ولم تظفر بكينونتها من جديد إلا في العتمة الصقيعيّة التي شهدت أنفاسها الأخيرة في
روسيا البلاشفة الذين ما أحبَّتْهم مارينا يوماً، وما استساغها البلاشفة يوماً.
حياة مفارقات موجعة؛ حياة ظلال دائمة، منذ كانت روسيا قيصريّةً، وحتّى حين رحلت
تسفيتايفا إلى المنافي، وحتّى بعدما أُرغِمت على العودة إلى روسيا التي تغيّرتْ
وحاربتْ كلَّ مَنْ بقي على عناده القديم. كانت تسفيتايفا تعيش في المنفى على
الدوام، حتّى حين ظنّت أنّها ستصبح الملكة الجديدة المتوَّجة على عرش «العصر
الفضيّ» للشِعر الروسيّ. كانت ظلّاً في البلاد، وظلّاً في المنفى.
ينقسم
كتاب «بعضُ حياةٍ وشعر» إلى قسمين، كما يُومئ عنوانه: «بعض حياة»، و«بعض شعر».
تسبقهما مقدّمة ضافية من المترجم، ويليهما ملحقان أوّلهما يضم مقتطفات من دفاتر
يوميّات تسفيتايفا، وثانيهما يقدّم قصّة مهمّة للقاءين بين أكبر شاعرتين عرفتهما
روسيا: آنا أخماتوفا و مارينا تسفيتايفا، اعتمد فيها المترجم على مراجع عديدة، من
كتب سيرة ورسائل ويوميات، لا يتوفّر معظمها كاملاً إلا في الروسيّة، ليذكّرنا –
ولو على نحو غير مقصود – بأنّ الترجمة عن اللغة الأصليّة، نصوصاً إبداعيّة أم لا،
ستفقد الكثير حين تُتَرجم عن لغات وسيطة كما نُبْتلى في الغالب الأعم من الترجمات،
لا سيما عن الروسيّة التي نكاد لا نعرف عن أدبها شيئاً بخلاف أدب «العصر الذهبيّ»
في القرن التاسع عشر. تمنحنا المقدّمة والملحقان مفاتيح كثيرة مهمة لقراءة قصائد
تسفيتايفا التي لا تنفصل حياتها عن قصائدها: طفولتها المتفرّدة، مراهقتها الغارقة
في الشِّعر، بدايات شهرتها في روسيا، ومن ثمّ في المنفى، أفول بريق أضواء الشهرة
شيئاً فشيئاً بالتّزامن مع تباعد الصداقات الشّحيحة أساساً. كلّ هذا بالتّوازي مع
الحياة الأعم حيث التأثيرات الثقافيّة الروسيّة والأوروبيّة (الفرنسيّة
والألمانيّة على الأخص)، والتأثيرات السياسيّة المتلاحقة التي غيّرت خارطة روسيا
عسكرياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً. ما عادت روسيا بلادَ العصر الذهبيّ الذي
طبع أوروبا والعالم بطابعه المميَّز، وما عادت حتّى روسيا القائمة على التّنافسات
الثقافيّة بين المدارس الأدبيّة، أكانت تنافسات بين أعظم مدينتين: موسكو
وبطرسبورغ، أم بين التيّارات الأدبيّة العظيمة حيث كلّ كاتب وشاعر كونٌ بحاله لا
يشبه أحداً سواه. باتت روسيا فريسة انقسامات سياسيّة أقسى لم تعد مقتصرة على
ثنائيّة الداخل والمنفى، بل تسلّلت إلى كلّ شيء كي تنسف التفرّدات والصداقات
والتّنافسات، كما حدث في ألمانيا في حقبة النازيّة لاحقاً، وكما سيحدث في أميركا
المكارثيّة، وكما حدث ويحدث وسيحدث في منطقتنا الملعونة دوماً، بربيع أم بغير
ربيع، بدكتاتوريات عسكريّة أم مدنيّة.
تضمّ
المختارات الشعريّة 71 قصيدة كاملة أو مجتزأة كتبتها تسفيتايفا من عمر السابعة
عشرة عام 1908 وصولاً إلى انتحارها عام 1941، ويضمّ القسم النثريّ مقتطفات من
يوميات تسفيتايفا من عامي 1917 و1919 قُبيل رحيلها إلى المنفى. يبدو النّثر أبهى
لديها، ربّما لأنّه أوضح أو أكثر حميميّة أو أكثر شمولاً من القصائد. نتعرّف في
النّثر إلى عقل وقلب تسفيتايفا من دون ذلك الفصل التعسّفيّ الذي نظنّ وجوده
بينهما. تكتب بقلبها، لا بالمعنى الدارج حيث جموح العواطف، بل بمعنى الرهافة التي
ترسم حدود علاقتها باللغة وبالعالم وبالشعر حتّى حين تكتب نثراً، حيث الشعر هو
الجسد وهو الروح، وهو البلاد وهو المنفى، وهو العشق الذي لا تهدأ جذوته، أكان عشقاً
لزوجها أو عشّاقها أو شعرائها من ريلكه إلى باسترناك شخصاً وقصائد. لا نستشعر هذه
الحميميّة في القصائد، ربّما بسبب غموضها أحياناً، وربّما لأنّها قليلة أو مجتزأة
في معظمها. يتعاظم هذا الإحساس حين نقرأ الملحق الذي نجدها فيه وجهاً لوجه مع
منافستها الأعظم آنا أخماتوفا. يتشارك القارئ مع أخماتوفا تردّده حيال قصائد
تسفيتايفا، ولعلّ هذا لأنّنا نعرف أخماتوفا أكثر (من ناحية الكم على الأقل)، أو
لأنّ بهاء أيّة شاعرة، مهما علا شأنها، سيخفت في مواجهة ضوء أخماتوفا الحارق. هذا
قَدَر من يولد في زمن عبقريّةٍ طاغية، كما هو قَدَر أبي فراس حين زامَنَ المتنبّي.
غير أنّ عبقريّة أبي فراس تتألّق حين لا يشبه المتنبي، وكذا هي عبقريّة تسفيتايفا
التي تتّقد حين تكون هي هي، بحميميتها وعزلتها ودنيا ظلالها، وفي دفاترها التي لن
تستغني عنها، حيث «الكتابة-العيش»، حيث الحياة هي الشعر والشعر هو الحياة، حيث
التّوق الدائم لما لا يكون، حيث الحب هو الموت لدى تسفيتايفا التي تعرف نفسها أكثر
مما ينبغي ربّما، ولذا احترقت قبل الأوان، حين انتحرت، «لا لأنّ الحال سيئة هنا،
إنّما لأنّها جيّدة هناك»، أياً، وحيثما، وأينما، تكن تلك الـ «هناك».
0 comments:
Post a Comment