Friday, December 14, 2018

محمّد آيت حنّا: بحثًا عن الكتاب اللانهائيّ


 ماذا لو بات الجميع كتّابًا؟ ما مصير القراءة والقارئ؟ ما مصير المكتبة؟ وما معنى المكتبة أساسًا في زمنٍ يكتب فيه الجميع ولا يقرؤون أو يقرؤهم أحد؟ في زمن الصحافيّ-المواطن والكاتب-المواطن، أصبحت هذه الأسئلة مهمّة أكثر. هل يتنافى الحديث عن وجوب أن يكون الكاتب قارئًا في الأصل مع مفهوم «الحرية» الذي أصبح المصدر الذي يُحال إليه كلّ شيء في نقاشاتنا وأحاديثنا؟ ما المعيار هنا؟ ولو ارتضينا «الحرية» معيارًا، ألا ينبغي لنا أن نعيد الحقّ إلى أصحابه في الثقافة ونقول إنّ القارئ هو الأصل والمنبع؟ وفي عصر موت كل شيء، هل مات القارئ أيضًا، وماتت القراءة، وماتت المكتبة؟ انطلاقًا من هذه الأسئلة يولد كتاب «مكتباتهم» (دار توبقال) للكاتب والمترجم المغربيّ محمد آيت حنّا، ليحاول إعادة تعريف وتكريس المكتبة كمعيار ثابت في زمن التحوّلات، تحوّلات كلّ شيء حتى فعل القراءة بذاته.

     لا يندرج كتاب «مكتباتهم» تحت تصنيف بعينه، بل ينتقل بسلاسة بين التصنيفات ليكرّس (أو يعيد تكريس) «النص الحر». لسنا هنا أمام مقالات أو خاطرة فلسفيّة أو تحليل فكريّ، بل نحن أمام كلّ هذا في آن. نص قصير مشدود ببراعة ينطلق من الخاص إلى العام مع إبقائه على «جوهر» فكرة محددة. وتكاد تكون هذه سمة المفكّرين المغاربة عمومًا. ولكنّ ما يميّز آيت حنّا هو حسّ سخرية ذكيّ وسعة اطلاع هائلة توحّد بين المتناقضات وتصل الفنون أحدها بالآخر في محاولة لإنتاج نص لانهائيّ، تتغيّر دلالاته بتعدّد قراءاته. إذًا، يبدأ آيت حنّا رحلته من الموضع المهجور في الثقافة الكتابيّة العربيّة الحاليّة: من موقع القارئ (أو القيّم على المكتبة كما يفضّل)، مستندًا إلى اقتباسات أو أفكار لكتّاب عديدين نجد أسماءهم في العناوين، بينما ما يحدث فعليًا هو قلب هذه الأفكار لتصبح أفكار آيت حنّا نفسه. ولعل هذا هو هدف الكتاب الحقيقيّ: أن تقرأ كأنك تكتب، وتكتب كأنك تقرأ. يغرق القارئ في النص ويخرج بخلاصاته الخاصة، يعود إلى العنوان فيُباغَت لأنه لم يقرأ ڤالتر بنيامين أو الجاحظ مثلًا، بل قرأهما كما فهمهما آيت حنّا، ثم يعيد قراءتهما كما فهمهما هو. تتبدّل التأويلات، وتتغيّر الأسماء، ويتعاقب القرّاء، وتبقى المكتبة.
     المكتبة هنا ليست مجرّد «خزانة كتب»، أو فضاء تتلاقى فيه الأفكار، أو تتراكم فيه التجارب. إنها كلّ هذا علاوةً على كونها مفتاح التجربة القرائيّة على اختلاف تأويلاتها. «من يمتلك سرّها يمتلك العالم»، وهذه العبارة ليست محض مجاز، فالمكتبة كما يفهمها آيت حنّا، بل وكما يجدر بها أن تكون حقًا، معمارٌ برّانيٌّ وجوّانيٌ في آن. تتعاظم قيمة المكتبة بتعاظم التّوافق بين هيكلها الخارجيّ (الخشبيّ بالضرورة) مع سيروراتها الداخليّة حيث تتفاعل كيمياء الكتابة والقراءة: «قَطع هكتارات من الغابات هو بمثابة محو لذاكرة الأرض، لكنّه محو سينتهي جزء منه في شكل أدوات (أوراق وأقلام) تدوّن هذه الذاكرة نفسها». نتحدّث عن طاقةٍ إذًا، تتحوّل من شكلٍ إلى آخر محافظةً على جوهرها. وليست أهميّة هذه الطاقة/المكتبة مرتبطةً بمدى ضخامتها، بل قد تكون «ضآلتها» أحيانًا هي مصدر قوّتها. العلاقة بين الخارجيّ والداخليّ، بين الامتلاء والفراغ، بين ما ينبغي تركه وما يجدر طرده، بين الحيّز المكانيّ وسكّانه من قرّاء (وكلّ كتّاب آيت حنّا قرّاء بالضرورة)، بين الشفاهيّ والكتابيّ، بين الموت وماقبل الولادة، ... كلّ هذه الأمور، وغيرها، تُعرِّف المكتبة في عصرنا بل وتُعرَّف من خلال المكتبة.
     وبما أنّ ما يُقال هو ما ينمحي، وما يمتلئ هو ما يفرغ، والحضور هو الغياب بمعنى ما، لا بدّ من زمنٍ يتلاءم مع هذا الفضاء الديالكتيكيّ. لا بدّ من زمنٍ يتلاءم مع فضاء المكتبة المكانيّ. وهنا يكون الزمن دائريًا بالضرورة، ما من ماضٍ أو حاضرٍ أو مستقبل، بل ثمة زمنٌ أوحد متكرّر أزليّ كمكتبة بورخيس. زمن يتلاقى فيه ابن سينا وترانسترومر وباموق وبنعبد العالي وقارئهم المستقبليّ في فضاءٍ زمانيّ واحد. وبهذا أيضًا كان تقسيم الكتاب يتوافق على نحوٍ ما مع تقسيم المكتبة بذاتها، حيث يوجد منطقٌ خفيٌّ في الترتيب الذي يبدو عشوائيًا للوهلة الأولى. معظم الكّتاب هنا ليسوا مجرّد «حرفيّي كتابة» كما يريد منّا عصر التخصص الآن، بل هم «الحروفيّون» (إن كانت هذه الكلمة تعبّر عن المصطلح المراوغ Men of Letters). كتبوا، ويكتبون، في الأدب والسياسة والفلسفة والتاريخ وفي اللغة بذاتها، وقراءتهم تعني بالضرورة دخول حيّز النص العابر للتخصّصات، النص مابعد الحداثيّ الذي هو ليس إلا نص ماقبل الحداثة، نص ماقبل التصنيفات والأنواع الأدبيّة. النص الحر الذي يخلق تصنيفه، ويخلق قارئه.
     وبما أنّ البداية كانت من قيّم المكتبة، والطريق مُفخّخة بالمعاني المتبدّلة، لن يكون مفاجئًا أن تكون النهاية «قصة قصيرة» تروي حكاية الكتاب اللانهائيّ وحكاية المكتبة. يختتم آيت حنّا كتابه بإدراج قصة «المكتبة» للكاتب المغربيّ أحمد بوزفور التي تقدّم لنا «كتاب المكتبة»، الكتاب الذي «لا يُقرأ مرتين ... كالموت»، الكتاب الذي يبتلع قارئه ويبقى ملتصقًا به كلعنة أبديّة. هل هذا النص قصة فعلًا؟ وهل الكتاب مقالات فعلًا أم قصص قصيرة بمعنى ما؟ لن تهمّ هذه التصنيفات إلا القارئ العابر، أما القراء الحقيقيّون «غرباء السياق» فسيتابعون القراءة بحثًا عن ذلك الكتاب الذي لم يقرؤوه بعد، الكتاب اللانهائيّ، «كتاب الكتب» كما يؤكّد محمد آيت حنّا في مكتبته/«مكتباتهم».




Share:

0 comments:

Post a Comment