استكمالًا للتّدوينة السابقة عن
«أفضل 100 رواية عربيّة»، سأحاول فهم ما نعنيه بـ «الرواية العربيّة». وبالطبع، ما
من بداية أفضل من البداية نفسها، أي متى ظهرت الرواية العربيّة. الأدب ابن لغته،
وبذا فإنّ الرواية العربيّة تعني العمل الروائيّ المكتوب بالعربيّة بصرف النّظر عن
قوميّة كاتبه، كما أنّ الرواية الروسيّة تعني العمل الروائيّ المكتوب بالروسيّة.
أما الأعمال المكتوبة بلغة أخرى فهي بنت لغتها حتى لو كان كاتبها عربيًا. لن أدخل
في سجال ما إذا كانت الرواية العربيّة الأولى هي «زينب» أم «غابة الحق» أم غيرهما.
وسأعدّ «الساق على الساق» (1855) الرواية العربيّة الأولى بمعنى أسبقيّة النشر،
بما أنّها أقدم نص روائيّ نعرفه، ولا أظن أنّنا سنجد عملًا سبقها، ولذا سنقول إنّ
بداية الرواية العربيّة كانت في خمسينيّات القرن التاسع عشر. وبطبيعة الحال، فإنّ
كثيرين سيعدّون ما أكتبه هنا حجارةً على الأشجار المثمرة أو إساءة لمسيرة عباقرة
السّرد الذين ظلمهم العالم لكونهم يكتبون بالعربيّة. لا يعنيني الدّخول في نظريّات
المؤامرة، لأنّني متأكّد من أمر واحد: ليست هناك «رواية عربيّة»، بل محاولات متفرّقة
نادرة قُيّض لها النجاح بدرجات متفاوتة.
لو استعدنا تاريخ «العصر الذهبيّ»
للرواية في العالم فسنكون في الفترة ذاتها تقريبًا، بفارق عقد أو عقدين في القرن
التاسع عشر. أما الرواية كجنس أدبيّ فقد ابتدأت منذ القرن الأول الميلاديّ مع
النصوص السرديّة الإغريقيّة التي ابتدأت بـ «كاليرخا» لخاريتون الأفروديسي،
والنصوص السرديّة اللاتينيّة التي ابتدأت بـ «ساتيريكون» و«الحمار الذهبيّ» في
القرن الثاني. ولستُ معنيًا الآن بالفروق بين الرومانس والرواية، أو مدى انطباق
هذه النصوص على التعريف الغربيّ الضيّق للرواية «الحديثة» الذي يشير إلى أنّ تاريخ
الرواية بدأ مع «دون كيخوته». لذا سنركّز على «العصر الذهبيّ» الذي نتّفق جميعنا
على أنّه مرحلة نضج الرواية في بقاع من العالم ومرحلة انطلاقها في بقاع أخرى.
يهمّني هنا الرواية الأميركيّة التي بدأت بالتّزامن تقريبًا مع الرواية العربيّة.
لمَ إذن نجحت الرواية الأميركيّة وأخفقت الرواية العربيّة؟
أظنّ أنّ السببين الأساسيّين
لإخفاق الرواية العربيّة هما: أولًا، لا نجد حضورًا للرواية في تاريخ الأدب
العربيّ؛ ثانيًا (وهو شديد الارتباط بالسبب الأول)، لم تحاول الرواية العربيّة
الخروج من الاستلاب الذي يربطها بالغرب، فأخفقت في إيجاد خصوصيّة لها، ولذا كانت
دومًا مجرّد مرآة مشوّهة للرواية الأوروپيّة والأميركيّة اللاتينيّة على الأخص. لا
حضور للرواية في تاريخ الأدب العربيّ بمعنى أنّ الرواية كنص سرديّ طويل ليست من
«تراث» العرب، بخلاف الشعر والقصة وحتى المسرحيّة. وحتّى النّصوص السرديّة الأطول
في التراث الأدبيّ مثل «ألف ليلة وليلة» و«رسالة الغفران» و«حيّ بن يقظان» ليست
إلا قصصًا قصيرة، أو ربّما «متتالية قصصيّة» لو استعرنا التعبير الرائج اليوم، وهي
أقرب إلى اصطلاح «أخبار» الذي يعرّف هذه النصوص بدقّة أكبر، كما هي الحال مع
«الأغاني» و«البخلاء». ولو أضفنا خلّو التراث من ملحمة شعريّة فسنكون أمام تراث
أدبيّ ينفر من الإسهاب، ويفضّل القصة التي لا تتجاوز مسافة ليلة واحدة بحيث تكون
أسمارًا بالمعنى الحرفيّ للكلمة. الأدب العربيّ ابن الليل، أكان شعرًا أم قصة،
ينتهي مع طلوع الفجر. أما الآداب الأخرى كلّها فيبدأ نضجها من الملاحم الشعريّة،
كقصيدة طويلة جدًا لا تبدو أطول القصائد العربيّة أمامها أكثر من حلقة واحدة في
مسلسل شعريّ طويل. ومع انتقال الأدب من الشعر إلى النثر، لم نجد قطعًا مع الماضي،
فتابعَ كلّ أدب مسيرة ماضيه مع تغيير أداة التعبير لتصبح الملاحم شعريّة ممتزجةً
بالنّثر، قبل أن تصبح نثريّة بالمطلق، وتأخذ الشكل الذي اصطُلح عليه باسم «رومانس»
ومن ثمّ «رواية». وكذا الحال مع الأدب العربيّ الذي بقي أمينًا لتراثه الشعريّ
وتراثه الاختزاليّ غير الميّال إلى الإسهاب. ربّما يمكننا استثناء السّير الشعبيّة
التي ظهرت في وقت متأخر ولكنّها ليست نثرًا بالمطلق، بل تبدو مرحلة وسيطة بين
الملاحم الشعريّة والرومانس، ولم يُقدَّر لها أن تكون نقطة انطلاق لجنس أحدث إلا
في العقود الأخيرة، وبنتائج مخيّبة. وبالتالي، بدأت الرواية جنسًا غريبًا وبقيت
على غرابتها هذه إلى اليوم. ومن هنا يمكننا التقاط سرّ أنّ معظم المحاولات
الروائيّة ما هي إلا قصص طويلة ممطوطة في أفضل الأحوال، أو مسخ لروايات عالميّة في
محاولة لإنتاج رواية عربيّة ليس فيها من العربيّة إلا اسمها.
وهنا سنصل إلى النقطة التي يصرّ البعض على
إشكاليّتها. لا أعلم ما سرّ اللوثة النقديّة التي انتشرت منذ عقدين وأشعلت الحرب
حيال العبقريّ الذي ابتكر عبارة «الرواية ديوان العرب»، وكأنّ مجرّد انتشار
الرواية يعني سحب البساط من الشّعر. ولكن لنسأل بصراحة: هل الرواية هي ديوان العرب
فعلًا؟ ما المعبّر الأكبر عنّا، عن حياتنا وهمومنا ومشكلاتنا ومآسينا وأزماتنا،
الشعر أم الرواية؟ وما المؤثّر الأكبر في مسيرة الأدب العربيّ، شعره ونثره؛ هل هي
الرواية أم الشعر؟ ولو استعرنا العبارة الشهيرة: هل خرجنا من معطف شهرزاد أو
الشّدياق أو محفوظ أم من معطف امرئ القيس والمتنبّي؟ خرجنا من معطف الشّعر بكل
تأكيد. تسلّلت الغنائيّة الشعريّة (وشعرنا القديم كلّه غنائيّ تقريبًا) إلى
الرواية حتى بعد أن اختفت من الشّعر. تسلّلت إلى الرواية أكثر حتّى من القصة التي
تابعث إرثها بدأب مدهش وواصلت دربها التجريبيّ الذي يفوق درب الرواية بما لا
يُقاس.
صحيح أنّ الظروف السياسيّة
والاجتماعيّة الخانقة خلقت قيودًا كثيرة أخّرت تطوّر الرواية، ولكنّها –
في الوقت ذاته – لم تؤخّر
تطوّر القصة أو الشعر. حصرت الرواية العربيّة نفسها في خانة الطبقة الوسطى
المثقّفة بحيث باتت جميعها تقريبًا تكرارًا للثيمة ذاتها. الأبطال كلّهم أحفاد
الفارياق ومحسن، والآباء كلّهم أحفاد أحمد عبد الجواد. وحتّى حينما حاول البعض
التنويع وإدخال الرواية إلى عالم المهمّشين، بدت الشّخوص أقرب إلى مهمّشي الأفلام الغربيّة،
والثوريّين أقرب إلى غيڤارا. ما الشخصيّة الروائيّة التي يمكن لنا الإشارة إليها
بثقة وعدّها شخصيّة من لحم ودم ولها سماتها المميّزة، وليست مسخًا من روايات
الآخرين؟
وهنا نأتي إلى السبب الثاني
المرتبط بالأول: رواياتنا مسخ لروايات الآخرين. بما أنّ ماضينا يخلو من الرواية،
كان من الطبيعيّ أن نستعير قوالب الروايات الأخرى، روسيّة أم أميركيّة لاتينيّة أم
فرنسيّة. وحينما أحيا النقّاد والكتّاب الغربيّون «ألف ليلة وليلة» ركضنا لنمسخها
أيضًا من دون أن نقرأها أو نفهم منطقها. استثمرها الغربيّون لتنويع فضاءاتهم
السرديّة فيما مسخناها نحن بتطبيق قالبها كما هو. حاول الشّدياق حفر طريق جديدة
فلم يجد من يتابع مسيرته التي انتهت بالنّسيان. سنجد محاولات جادة نادرة لدى إميل
حبيبي وعبد الرحمن منيف وجمال الغيطاني ثم مُسخت بدورها على يد روائيّين آخرين
دمّروا أصالة الابتكار وأنتجوا نصوصًا هجينة رديئة. لمَ يكون مُقدَّرًا علينا دومًا أن نقرأ حياتنا
عبر عدسات الآخرين؟ لمَ يُقدَّر عليّ أن لا أحس بحربي إلا حين أقرأ حروب
الأوروپيّين؟ لم لا أعرف معنى الحب إلا عبر كلمات عشّاق أميركا اللاتينيّة؟ لمَ
ينبغي أن أفهم تناقضات حياتي من خلال نقاشات الروس؟ هل يكفي التذرّع بضيق الحياة
السياسيّة كي أبرّر استعارتي لآلام الآخرين؟
سيمنّ الله علينا دومًا بـ «خفيفي
ظلّ» عديدين يسيئون فهم ما قيل. ما قلته –
ببساطة – هو رؤيتي
الشخصيّة لأسباب إخفاق الرواية العربيّة، وبقائها كأدنى نتاجات الأدب العربيّ. ولا
أعني بحال من الأحوال نسفي لإمكانيّة ظهور رواية عربيّة مميّزة في المستقبل.
تشاؤمي يخصّني وحدي بكل تأكيد. ولكنّ عدم الاعتراف بالمشكلات لن يولّد إلا روايات
أسوأ من سابقاتها، على الأخص بعد انتشار الجوائز التي لا تسوّق إلا الأدب الرديء
مسحوب الدّسم. سيتظارف أحدهم (وهذا حدث بالفعل) ليقول إنّ السينما فنّ دخيل أيضًا
وكذا قصيدة النثر. السينما فنّ دخيل على الجميع، وبذا فهي تشبه الشّعر حين كان
للجميع بلا تمييز، وطوّره كلّ شعب بما يلائمه (ولنبق في هموم الرواية الآن وما من
داع لاستحضار خيباتنا السينمائيّة أيضًا)؛ أما قصيدة النثر فهي شعر في المقام
الأول، ليست إلا تطوّرًا آخر من تطوّراته وليست فنًا مستقلًا. وسنجد اعتراضات
جديّة بطبيعة الحال تحاول إثبات روائيّة «ألف ليلة وليلة» أو حتّى المقامات
والسّير الشعبيّة. ولكنّ هذا مستوى آخر من النّقاش ربّما أعود إليه لاحقًا.
أتشكرك أستاذ يزن على فتح هذا النقاش المهم
ReplyDeleteعندي بعض الاستفسارات
الا يعتبر الادب إنسانيا بالمقام الأول
ما هي الخصوصية المقصودة في التدوينة ووما الذي يحدد الخصوصية العربية عن غيرها
اليس الأدب بشكل عام سلسلة من إعادة الخلق
اغلب الروايات يمكن دوما ارجاعها لعناصر سالفة للرواية وكاتبها
لماذا تصبح في الحالة العربية مسخا للاخرين
تحياتي
يحتاج الرد إلى تدوينة مفصلة.
Deleteصباح الخير