ربما كان ممدوح
عدوان أكثر من استعيد في السنوات الأربع السورية الأخيرة. يكاد يكون لكلّ من
استعاده «ممدوحه» الخاص؛ ولكنّ الفيديو الشهير لعدوان في اجتماع اتحاد الكتّاب
العرب عام 1979 كان يغطّي على كلّ ما عداه. ممدوح هناك انتقد السلطة التي كانت في
أوج قوّتها، بل حين كان الصراع الداخلي يشهد جولته الكبرى في تاريخه المعاصر
وصولاً إلى انتفاضة عام 2011 والحرب التي تلتها. كان صوته آنذاك أحد أقوى الأصوات،
إن لم يكن أقواها على الإطلاق. تكمن تلك القوة في كونه غير مستند إلى حزب أو طائفة
أو عشيرة تدعمه؛ كان صوتاً متفرّداً حتى في أشدّ اللحظات حلكة. ولكنّ الأهم أنّ
ممدوح كان معارضاً من الداخل: داخل البلاد، وداخل المؤسسة. لم يكن، آنذاك، اسماً
عابراً، بل كان أحد أهم الأسماء الثقافية السورية التي تأسّس عليها المشهد الثقافي
السوري وصولاً إلى منتصف التسعينيات، حين بدأ الانحدار على جميع المستويات.
تناسى البعض أنّ
أهمية ذلك الفيديو لا معنى لها لو كان ذلك الفيديو لحظة عابرة. وتعززت أهمية ذلك
الفيديو، كمعبّر عن الأصوات المعارضة «الإصلاحية»، مع استمرار مسيرة ممدوح عدوان
الثقافية. كان معارضاً ثقافياً، لو جاز التعبير، بعدما أدرك عقم السياسة.
كان يحاول دوماً تحقيق معادلة مستحيلة في سوريا، وجميع الدول
العربية، وهي أن تحافظ على نظافتك حتى بعد غرقك في المستنقع الآسن للحياة اليومية
في وسط ثقافي هو الأسوأ بين جميع دول شرق المتوسط، حيث المحسوبيات والشللية، وحيث
يحتل أنصاف الموهوبين والمخبرون كلّ شيء من دون ترك أي فتات لأحد. أن تعارض فساد
الطبقة الحاكمة في لحظة يصبح كل من يعارضها مشبوهاً وإرهابياً ومحسوباً على قوى
خارجيّة، لا يعني أنك تسبح ضد التيار فحسب، بل أنك تخلق تياراً آخر. لم يكن لذلك
الفيديو معنى لو لم يكن ممدوح في الداخل، وفي اجتماع لأكبر مؤسسة ثقافية رسمية قبل
تدجينها الكامل. لا معنى لذلك الفيديو إلا إذا ترافق مع العبارة اللاحقة الشهيرة
لممدوح حين تحدّث عمّن هم في الخارج، ويقذفون حنينهم للوطن كعادة سريّة. لم تكن
علاقة ممدوح بالوطن عادة سريّة، بل كانت علاقة شائكة بالذات والهويّة ومعنى الحضور
في زمن التغييب، والصراخ في زمن السكوت.
لا معنى لذلك الفيديو حتى لو روّج له ثوريّو اليوم، بل ربما لا
معنى له لأنهم هم من روّجوا له. تذكّرنا، وتذكّرهم، مسيرة ممدوح عدوان، بالمثالين
اللذين يريد هؤلاء الثوريّون تناسيهما: إيران وجنوب أفريقيا؛ أو الخميني ومانديلا.
لم يصنع الخميني ثورة إيران، كما لم يخلق مانديلا تمرّد السود. أي، لم تبدأ ثورة
إيران من المنفى، كما لم تبدأ ثورة جنوب أفريقيا من السجن. بل ربما بالإمكان القول
إنّ حضورهما كان مسرّعاً للثورة لا أكثر، إذ كانت الثورتان ناضجتين بما يكفي
للقطاف. هذا ما لا يريد ثوريّو الخارج إدراكه. لا معنى للثورة عن بعد، حتى لو كان
هناك رمز بحجم الخميني أو مانديلا (وهو ما تفتقده الانتفاضة السورية على أية حال).
تبدأ الثورة من الداخل بالضرورة، وليس حضور الخارج (المنفى الاختياري أو القسري)
أكثر من مكمّل للصورة، أو مسرّع للعمليّة. لا معنى لذلك الفيديو لو كان التاريخ
السوري قد بدأ بآذار 2011 كما يريد منا الثوريون. لكن لذلك الفيديو المعنى كله،
والأهميّة كلها، لو وضعناه ضمن سياق تاريخيّ دقيق يبدأ بالمسحوقين وينتهي بهم،
ويمر بالضرورة بطبقة مثقّفين صادقين، بصرف النظر عن تصنيفهم، أكانوا ثوريين أم إصلاحيين.
تعيدنا ذكرى ممدوح عدوان إلى ضرورة إعادة التفكير في معنى
الثورة والإصلاح، وإعادة تعريفهما. ولن يكون من الصعب، حين دراسة حياة ممدوح،
الميل إلى الإصلاح، كما يمثّله هو. إصلاح بألف ثورة، هذا ما كان يمثّله ممدوح
عدوان ولا يزال برغم غيابه. تتعاظم أهمية هذا الإصلاح حين نستعيد علاقة ممدوح
بمجايليه المهمّشين، وبالأجيال اللاحقة التي هُمّشت بحكم الأمر الواقع بسبب
الانهيار الكلي في المنظومة الثقافية والاجتماعية والسياسية السورية. كان ملجأً
دائماً لهؤلاء المهمّشين، وصرختهم التي عجزوا عن إطلاقها، أو أُرغموا على ذلك. نكاد
لا نعثر على شبيه له في الوسط الثقافي السوري لو استثنينا هاني الراهب وشوقي
بغدادي. حين نتذكّر مقدّمته لمجموعة إبراهيم صموئيل الأولى «رائحة الخطو الثقيل»
(1988)، المترافقة مع كلمة الغلاف الخلفيّ لشوقي بغدادي، سندرك معنى المثقف
الحقيقي الذي لم يتردد في إعلان ولادة متأخرة لمبدع سوري في زمن الضيق والقحط. أما
إن أضفنا بأنّ ذلك المبدع اسم مُغيَّب بشكل متعمَّد منذ أواخر السبعينيات، ستكتمل
أمامنا صورة ممدوح كمثقّف متفرّد.
ليس نتاج ممدوح عدوان هو ما يصنع وزنه الثقافي، برغم أهمية ذلك
النتاج وتنوّعه المرعب وغزارته المدهشة. سنختلف في تقييم مكانته الشعريّة، أو
المسرحيّة، أو الصحافيّة، أو في الترجمة، أو السيناريو التلفزيونيّ، ولكن لا يمكن
لنا الاختلاف في حضوره العظيم كمثقّف أدرك أنّ الثقافة ليست سوى لهواً ومتعة
شخصيّة، وبأنّ هذا اللهو وتلك المتعة هما ما يُقلق أصحاب العروش، ولذا استمر في
لهوه وعبثه ومتعته حتى أيامه الأخيرة. أدرك مبكّراً بأنّ السير في الأزقة السوريّة
الموحلة يعني الاتّساخ بالضرورة، ولذا أتقن أهميّة القفز بين الوحول، كأنه يطير،
كي يخفّف الاتّساخ. طيران ممدوح جعل الأجيال اللاحقة لا تدفن أجنحتها بأيديها، ولذا
ستستمر لعبة الطيران، حتى وإن كانت السماء واطئة.
نُشرت في جريدة «الأخبار» اللبنانيّة 19/12/2014
0 comments:
Post a Comment