إنْ جازَ لنا اختزال السّرد
الأفريقيّ (الأسود) في القرن العشرين في ثالوث، لن نتردّد طويلاً في حسم خياراتنا:
وولي شوينكا، وتشنوا أتشيبي، ونغوغي وا ثيونغو. أضلاع هذا المثلّث السرديّ أسماء
لها وزنها عالمياً، وإنْ كان النّيجيريّان مهيمنَيْن على الساحة أكثر من الكينيّ
وا ثيونغو لأسباب كثيرة، ليس أقلّها جائزة نوبل التي نالها شوينكا، والأضواء
الساطعة المُسلّطة على أعمال تشنوا أتشيبي. ثمّة سببٌ آخر أهم: بقي أتشيبي وشوينكا
يكتبان بالإنكليزيّة، بينما هجرها وا ثيونغو وعاد إلى لغته الأصليّة، الكيكويو؛
كانت رواية «تويجات الدم» (1977) آخر عمل أدبيّ له بالإنكليزيّة، وإنْ كان قد واصل
كتابة المقالات بها. لم يكن خياره الجريء في الكتابة بالكيكويو محض تغيير أداة
تعبير، بل كان استعادةً لصوته ولهويّته ولوجوده، واستعادة لاسمه، حين نبذ اسم جيمس
نغوغي، واعتنق اسمه الأفريقيّ. أرّختْ لحظةُ هجر الإنكليزيّة والعودة إلى الجذور
لمسارٍ جديدٍ في حياته كلّها، ودمغتْ أعماله اللاحقة، وكأنّه ما يزال يناضل لينزع
كلَّ أثر من آثار الصوت المستعار، واللغة المستعارة، والاسم المستعار، والهويّة
المستعارة.
يمكن لنا عدّ كتاب «الكتّاب في
السياسة» (1982، 1997) الذي صدرت ترجمته أخيراً عن ابن النديم للنشر ودار الروافد
الثقافية (ترجمة عهود المخيني) جزءاً آخر لكتابه «تصفية استعمار العقل» (1986)، أو
ربّما مرآةً أخرى له. يقدّم لنا وا ثيونغو في «الكتّاب في السياسة» أربع عشرة
مقالة وملحقاً، حيث حذف ثلاث مقالات من الطبعة الأولى، وأضاف أربعاً ضاعف فيها
جرعة السياسة. ليس هذا مستغرباً من كاتب يرى أنّ «الكتّاب والمفكّرين حيوانات
سياسيّة حتّى وإنْ احتجّوا أنّهم يقبعون في ملكوت الأفكار النقيّة». يرى وا ثيونغو
أنّ كلَّ كاتبٍ هو كاتبٌ في السياسة بالضّرورة، وهنا يتقاطع رأيه مع رأي الراحل
عبد الرحمن منيف وعبارته الدقيقة: «حتّى اللاسياسة هي سياسة»، بمعنى أنّ السياسة
عنصرٌ جوهريٌّ لدى الكاتب حتّى لو تظاهر بنبذها، لأنّ هذا النّبذ موقف سياسيٌّ
بحدّ ذاته. سنجد تقاطعات كثيرة بين الكاتبين، على الأخص سعيهما لإبداع أدب أصيل لا
يستعير أصابع الآخرين، وإنْ كان هذا يحتاج إلى بحثٍ مستقل نقارن فيه بين كتاب وا
ثيونغو وبين كتاب منيف «بين الثقافة والسياسة» (1998).
تتركّز السياسة في القسم الثاني
من الكتاب: «الكلمات والسُّلطات»، حيث يشدّد وا ثيونغو على حريّة التّعبير في
أفريقيا النيوكولونياليّة التي عملت سُلطاتها بمنهجيّةٍ على وأد الثقافة المحليّة
بغية إلحاقها بثقافة أوروبا الكولونياليّة، إلى درجة أنّ الكتّاب الأفارقة صاروا
يميّزون أنفسهم تبعاً لتصنيفات اللغة الأوروبيّة التي يكتبون بها، وبحيث يكون مصيُر
أيّة محاولة للإفلات من قبضة اللغة الأجنبيّة المهيمنة التّضييقَ أو الاعتقالَ.
اعتُقل وا ثيونغو نهاية عام 1977 إلى نهاية عام 1978 بسبب كتابته وإنتاجه لمسرحيّة
«سأتزوّج حين أشاء»، واضطرّ بعدها إلى العيش في المنفى. لم يكن موضوع المسرحيّة،
الذي يصوّر الصراع على الأرض والوجود بين الفلاحين الكينيّين وبين الكولونياليّة
العسكريّة والدينيّة، السببَ الأساسيّ للاعتقال، بل لأنّ تلك المسرحيّة كُتبت بالكيكويو،
اللغة المحليّة التي يفهمها الناس، بحيث انتقلوا أخيراً من كونهم مجرّد شخوص في
أعمال مكتوبة باللغة الكولونياليّة إلى فاعلين أساسيّين في خلق العمل المكتوب
باللغة المحليّة. من هنا ندرك ذكاء السُّلطة التي كانت ستغضّ الطّرف عن المسرحيّة
لو كُتبت بالإنكليزيّة، أو ربّما ستكتفي برقابة بسيطة، لا أن تُسارع إلى إلغائها
واعتقال كاتبيها في سجنٍ مشدَّد. ولكنّ هذا الذّكاء ينحدر إلى غباءٍ هزليّ بعد تسع
سنوات حين يصدر أمرٌ عام 1986 بإلقاء القبض على ماتيغاري، الشخصيّة الرئيسة في
رواية وا ثيونغو. وحين اكتشفت السُّلطة أنّ ماتيغاري شخصيّة متخيّلة، منعت تداول
الكتاب. وبذا يومئ وا ثيونغو إلى أنّ قَدَر الكاتب الأفريقيّ مُعلَّقٌ بلحظات
الذكاء والغباء التي تنوس السُّلطة بينهما؛ مصير الكاتب والكتابة مرهونٌ بمزاجيّة
سُلطة تسعى جاهدةً إلى إبقاء آثار الكولونياليّة حتّى بعد خروج الاحتلال المباشر،
بل ربّما تضاعفها درجات حين يصبح الصراع صراعَ سلطةٍ وشعب، لا صراع احتلال
ومقاومة. تريد الكتابة كما يحلو لك؟ اكتب بلغة أجنبيّة لا يفهمها الناس، وإلا
سنسحقك. هذا هو خطاب السُّلطات في أفريقيا (ودول كثيرة في آسيا وأميركا الجنوبيّة)،
لأنّها تخشى من شيء واحد فقط: وعي الناس لهويّتهم وكينونتهم. أن تكتب بلغتك
المحليّة يعني بالضرورة تشجيع الناس على إدراك ذواتهم، وهنا مكمن الخطر.
راديكاليّة أفكار وا ثيونغو ليست
محض سياسيّة، إذ يشدّد على نقطة يتناساها معظم المناضلين: المناهج الدراسيّة في
المدارس والجامعات. يرى وا ثيونغو أنّ تدريس الأدب ليس عمليّة بريئة، لأنّ حصر
التدريس بلغةٍ أجنبيّة وبأعمال أجنبيّة (أوروبيّة على الأخص) يُضاعف اغتراب
الأفارقة عن واقعهم ووجودهم. لنا أن نتخيّل أنّ الطفل الأفريقيّ يتعرّف إلى الثّلج
قبل أن يعرف نباتات بيئته، ويتحدّث الإنكليزيّة أو الفرنسيّة أو البرتغاليّة
بطلاقة ولا يعرف لغته المحليّة، لندرك أنّ مفهوم الاغتراب لا يقتصر على المجالين
السياسيّ والاقتصاديّ، بل لعلّ الاغتراب الأخطر هو الاغتراب التعليميّ والثقافيّ.
ومن هنا يركّز وا ثيونغو على وجوب رَدْكَلة التّعليم بحيث تكون الأولويّة للأدب
المحليّ والأفريقيّ (في القارة وفي المهجر)، ومن ثمّ أدب آسيا وأميركا اللاتينيّة،
ومن ثمّ آداب أوروبا وباقي العالم، إذ «على المرء أن يعرف مكان وقوفه حتّى يعرف
الاتّجاهات التي عليه خوضها». لنا بالطبع أن نختلف مع وا ثيونغو في تعميمه المجحف
أحياناً لكلّ ما هو أجنبيّ، ولتأويلاته الخاصة للآداب الأوروبيّة، ولكن تلك نقاط
قابلة للنّقاش ولا تغيّر من جوهر أهميّة طروحاته الجريئة.
تبقى نقطة أخيرة لا بدّ من
إيضاحها، حين يشير وا ثيونغو إلى أنّ مقالات الكتاب «يمكن جمعها في سؤال: ما جدوى الأدب
في الحياة؟»، وإلى وجوب أن «يعكس الأدب الذي ندرّسه ... ماضي كينيا العظيم الحافل
بالصراعات البطوليّة ضد الهيمنة الأجنبيّة». نفهم قصد وا ثيونغو، وقصد منيف، حين
يشيران إلى أهميّة أن يكون الأدب «ملتزماً»، ولا تعارض بين كلامهما وبين وجوب
التّشديد على جماليّات الأدب. أعمالهما مكتوبة بجمال وبراعة قبل أن تكون ملتزمة،
لأنّهما يدركان حتماً أنّ الأفكار وحدها لا تؤسّس لأدبٍ أصيل، إذ سنضيف إلى
اغترابنا اغتراباً آخر حين نحوّل الأدب إلى شعارات صرفة. الفكرتان متضافرتان، وإنْ
لم يوضحهما وا ثيونغو صراحةً.
0 comments:
Post a Comment