Friday, December 13, 2019

سعود السنعوسي: كيف تضرب كفاً بكف!






ثمة إغراء كبير في الكتابة عن سعود السنعوسي: خمس روايات في تسع سنوات؛ أصغر الفائزين سنًا بجائزة «بوكر العربيّة»؛ أحد أكثر الكتّاب العرب رواجًا؛ تُرجمت رواياته إلى ما يقارب عشرين لغة. تلك هي «الوقائع» التي يتّفق عليها الجميع، فيما يبدأ الاختلاف في كلّ ما عدا هذا. هل يكتب السنعوسي روايات حقًا؟ هل يتوازى حضوره الجماهيريّ مع مستواه الفنيّ؟ هل ثمّة مجال أصلاً للحديث عن «تجربة» كتابيّة لديه؟ والسؤال الأهم: لماذا سعود السنعوسي؟ إجابة السؤال الأخير تُريحنا من تفاصيل كثيرة؛ السنعوسي أبرز مثال عن كتّاب الجوائز: الكتّاب الذين يكتبون ضمن وصفة محددة لا يريدون (ولا يقدرون في الغالب) تجاوزها: روايات ليست أكثر من حواديت تشبه حكايات الجدّات من دون أن تملك سحرها. الحكاية هي القصة التي تضمّ حدّوتة بسيطة تنشغل غالبًا بوجوب إيجاد «مغزى» لها بلا اكتراث لأهميّة الأسلوب أو التنويع أو تقديم ما هو أكثر من المتعة. الحكاية هي الإجابة الأمثل على سؤال «ماذا حدث؟». الحكاية قابلة للتّلخيص في عدة أسطر من دون الإخلال بأيّ جزء من أجزائها. ماذا عن الرواية؟ الرواية في مكان آخر تمامًا؛ الرواية ليست معنيّة بالحدّوتة، أو المغزى، أو المتعة حتّى (هي شرط ليس لازماً بالضرورة)؛ الرواية غير قابلة للتلخيص في أسطر أو مقالة أو كتاب؛ الرواية لا تنشغل بسؤال «ماذا حدث؟» بل بسؤال «لماذا وكيف حدث ما حدث؟». الرواية عالم بأكمله، بينما الحكاية تفصيل بسيط عابر ضمن هذا العالم؛ الرواية تعني بالضّرورة وجود أسلوب وتنويع وبصمة تميّزها عمّا غيرها. لا تحقّق أعمال السنعوسي أيّ شرط من شروط الرواية، ومع ذلك هو من الكتّاب القليلين الذين يتّفق بشأنهم معظم القرّاء والنقّاد. مرةً أخرى، السنعوسي مثال عن حالة مستعصية في المشهد الأدبيّ العربيّ لا تُبشّر بنهاية قريبة.
تنطلق أحدث روايات السنعوسي «ناقةُ صالحة» (الدار العربيّة للعلوم، منشورات ضفاف) من الحدوتة وتنتهي بها، بل إنّها أدقّ مثال من بين أعماله عن هذا النمط الكتابيّ. سأكسب مئتي كلمة أو أكثر لو لخّصتُ الكتاب، كما درجتْ عادة المراجعات الأدبيّة هذه الأيام. ولكن فلنستثمر الكلمات في ما هو أجدى، ويمكن لمن يريد ملخّص الحكاية (أو الحكاية كلّها فعليًا) أن يعود إلى أيّة مراجعة للكتاب في موقع «غودردز» أو أيّ منبر آخر. ولكن سأؤجّل الحديث عن الكتاب قليلًا لأناقش أصداءه لدى الكاتب وجمهوره. يرفض السنعوسي عدَّ عمله «رواية صحراويّة»، ويقول مُحقًا إنّ هذا التصنيف سيعني عدَّ الرواية التي يرد فيها البحر رواية بحريّة. ولكنّ رفضه ليس صحيحًا تمامًا لأنّنا لو استثنينا الصحراء (فضاء حكايته) لن يبقى لدينا حامل للعمل. ولكنّ السنعوسي يدرك بذكاء أنّ إدخال الصحراء في التقييم سيعني بالضرورة مقارنة عمله بأعمال كتّاب آخرين كتبوا عن الصحراء، وستكون المقارنة في غير صالحه حتمًا، سواء كان طرف المقارنة الثاني عبد الرحمن منيف أو إبراهيم الكوني أو بهاء طاهر أو صبري موسى أو عبد الله البصيص، على اختلاف رؤية كلٍّ منهم للصحراء. يتحدث السنعوسي عن «رمزيّة» في العمل وعن «نزع الأسطرة»، وهما مسألتان مهمّتان فعلًا، ولكن أين الرمزيّة التي يقصدها، إن كانت شخصيّات العمل وهواجسها وأفكارها قد انكشفت قبل نهاية النصف الأول من العمل القصير أساسًا؟ ولكنّه نجح في نزع الأسطرة، وليته لم يفعل! إذ لم يتبقّ لدينا إلا حكاية باهتة مكرورة لا يشفع لها مدى حضورها الفولكلوريّ أو مدى التاريخ الجديد الذي حاول السنعوسي تأثيث حدوتته به، أو جمال الاقتباسات من الشاعر دخيل الخليفة التي قدّم بها السنعوسي لفصول حكايته. إنْ كانت هناك رمزيّة فسنجدها في الاقتباسات الشعريّة لا في متن الحكاية. وإنْ كانت هناك جماليّات، فقد ضاعت حينما لوى السنعوسي عنق حكايته، وبقيت الجماليّات في ما لم يكتب. لا أعني هنا تلك الجماليّات التي توحي بها النّصوص ولا تُصرّح بها حين نتحدّث عن تكثيف لا يتقنه كثيرون، لأنّ حكاية السنعوسي لن تخرج بصيغة أفضل مما خرجت به إذ لا يملك كاتبها أدوات التّكثيف أو العمق. بقيت الجماليات في ما لم يكتب لأنّه ببساطة لا يتقن فنّ الكتابة والحذف، فأضاع على نفسه وعلينا فرصة إعادة خلق حكاية فولكلوريّة في قالبٍ جديد. ربّما كانت نيّة الكاتب أو صورة عمله في ذهنه أجمل مما أنتج، ولكن منذ متى نتحدّث عن نيّات في الأدب؟
شخوص مسطّحة، وحكاية باهتة. فلنتّجه إلى آخر ملجأين قد يشفعان لإخفاق الكاتب: اللغة والأسلوب. احتفى كثيرون ببهاء لغة السنعوسي في عمله الجديد، بل وصل الأمر ببعضهم إلى الحديث عن لجوئهم إلى المعجمات ليكتشفوا الكلمات التي قدّمها السنعوسي في عمله. لا أعلم مدى معرفة هؤلاء القرّاء والنقّاد باللغة العربيّة، ولكن لم أُصادف كلمة غريبة أو جديدة أثناء القراءة. ولا أعلم عن أيّ جمال يتحدّثون لأنّ اللغة لا تبتعد عن لغة المواضيع الإنشائيّة المدرسيّة وعن لغة روايات الخمسينيّات والستينيّات التي تتوسّل الشعريّة ولا تكون النتيجة إلا لغةً مزركشةً مضحكة. ولكن ربما كانت محاولة كسر السرد التّقليديّ ستشفع للسنعوسي حين وزّع الحكاية بين عدة أصوات: الراوي العليم، ودخيل، وصالحة. كانت المحاولة ستنجح لو كانت الأصوات مختلفة في تعددّها، ولكنّ لغة الراوي العليم (لسان المؤلّف) وأسلوبه وأفكاره لا تختلف عن لغة دخيل، أو لغة صالحة، ويمكن لنا أن نجرّب حذف الاسم الذي يتصدّر كل فصل لنجد أنّ المفردات لم تتغير، وأنّ المتحدّث واحد. تعدديّة الأصوات تعني بالضرورة وجود بصمةٍ تُميّز كلّ صوت عن الآخر، وهذا ما لم نجده هنا. أما المحاولة الأخيرة في إبقاء صفحةٍ بيضاء لفصل «فالح»، فهي محاولة تذاكٍ غير موفّقة، وكذا الأمر في «الملحق» الأخير الذي أراد منه السنعوسي أن يعزّز فكرة الإيهام، ولكنّ المحاولة أخفقت بجدارة إلا لدى القارئ الذي لم يقرأ إلا روايات السنعوسي ربما.
لا محكّ للعمل الفنيّ إلا الزمن. ولذا سيبقى سحر الحكاية الفولكلوريّة على بساطتها موجودًا حين يتلاشى أيّ أثر لحكاية السنعوسي. ولكنّ الذهنيّة المهيمنة اليوم لدى محكّمي الجوائز منشغلةٌ بما هو زائل؛ ويتعاظم الأمر شيئًا فشيئًا حين بات الناشرون يحدّدون ويحرّرون أعمال الكتّاب وفقًا لمزاج الجوائز. من حقّ كلّ شخص أن يكتب وأن ينشر وأن يُروَّج له. ستروج الحكاية وتنزوي الروايات في هامشٍ لا يعترف به النقّاد والمحكّمون. ولكن من قال إنّ الهامش ليس المكان الأجمل حين يكون المتن طافحًا بالرداءة؟

Share:

2 comments:

  1. يمكنك ان تزيد على ذلك في انه لم يكتب معلومات حقيقية عن البيئة الصحراوية التي كتب عنها، معظم القراء ليس لهم أي علم بالبدو وحياتهم، تخيل أن يأتي شخص بدوي ويقرأ وها أنا قد جئت لاجد معلومات سطحية بعضها أتى من قوقل وبعضها أتى من حكاية وأخذ من السطح لاستغرب واقول هذا لماذ كتب لماذا لم يتعب نفسه ويذهب إلى البدو ويعيش معهم اسبوع انهم كثر إلى الآن بعضهم يعيش في بيوت من سعف النخيل في عمان والسعودية ولازال محافظا على حياة البدائية بعيدا عن المدن، هل هو صعب ان تكتب شيء حقيقي واقعي ان كنت لا تعرف كيف تكتب لا تكتب وهناك المزيد من الخيال الأقرب إلى الافلام وهو يتكلم عن زمن قديم كان يعيش اهل البادية فيه في شقاء وخاصة في أرض الخليج

    ReplyDelete
  2. ولكن من قال إنّ الهامش ليس المكان الأجمل حين يكون المتن طافحًا بالرداءة؟
    👏👏👏

    ReplyDelete