لم أكن أعرف أويانغ جيانغ خي.
تقتصر معرفتي في الشعر الصينيّ على قصائد متفرّقة لشاعرين: دو فو، ولي باي. الأدب
الصينيّ عقدة ذنب كبرى حتمًا، لو قارنتُها بالأدب اليابانيّ أو الكوريّ حتّى. خفّتْ
وطأة الذّنب قليلًا حين علمتُ أنّ أويانغ غير معروف خارج أوساط المتخصّصين في
الأدب الصينيّ عربيًا؛ بل إنّ شعره لم يُترجَم إلى الإنكليزيّة مثلًا إلا قبل عشر
سنوات أو أقل. وهنا تتجلّى أهميّة مشاريع المترجمين عن الصينيّة في ترجمة الأدب
الصينيّ الحديث، ومشروع يارا المصري في ترجمة الشعر والنوفيلا على الأخص. لعلّ الصين ما تزال بعيدة، إذ نحتاج إلى عشرات الكتب كي نُقرّب
المسافات قليلًا، ولكنّ الصين لم تعد كلاسيكيّة بالنسبة إلينا، ولم تعد مقتصرةً
على كونفوشيوس ولاوتسي. ثمّة صين جديدة تقترب شيئًا فشيئًا في الترجمات. ثمة صين
أخرى مختلفة حتّى عن صين النوبليّ مو يان.
لم أكن أعرف أويانغ جيانغ خي، إلى
أن صدرت مختاراته «شيء اسمه حجر» (دار «مسعى»، ترجمة يارا المصري، تقديم أدونيس).
ولكنْ أعرف وأحبّ أسماءً كتبَ عنها في قصائده: شوبان، شوستاكوفتش، جاكلين دو بريه،
وأدونيس. ولو اقتفينا نصيحته في ملاحقة الكلمات وحدها (الأسماء في حالتنا هنا)،
سنتعرّف إلى صوت شعريّ مدهش، يكتب عبر المحو. قصائد أويانغ لا تمنحك نفسها كاملة
مهما تعدّدت القراءات، بل يتراكم التّكثيف (والغموض اللذيذ) مع كلّ قراءة جديدة.
يكتب القصيدة الطويلة بمزاج القصيدة القصيرة، ويكتب القصيدة القصيرة بمزاج الجملة
البرقيّة المختزلة، ويكتب الجملة بمزاج الكلمة وجبال معانيها وإيحاءاتها
اللانهائيّة. إنْ كانت الكتابة ترجمةً في ذاتها، بمعنى تحوُّلها من فكرةٍ ذهنيّة
إلى منطوق، ومن منطوق إلى مكتوب، ومن مكتوبٍ إلى فكرةٍ ذهنيّة مرة أخرى، فإنّ
قصائد أويانغ تجسُّدٌ مدهشٌ لمعنى الترجمة حين تتحوّل الكلمات-الرموز (بالمعنيين
الحرفيّ والمجازيّ) إلى عوالم منمنمة متناثرة. لا يكتب أويانغ عن «العالم»، بل عن
عوالم صغيرة متناثرة، قد تكون وردةً أو نورًا أو خريفًا أو شمسًا أو روحًا أو
نارًا أو حجرًا. لا ينشغل بكتابة قصيدةٍ شاملةٍ حتّى حين تكون قصيدته طويلة، بل
يكتب بعين العابر دومًا. يبدأ الزمن عنده ببداية القصيدة ويتبدّد بانتهائها، بحيث
يبدو أويانغ مثل نحلةٍ لا تستقرّ إلا كي تطير من جديد. ولعلّ هذا هو مكمن صعوبة
قصائده وغموضها، إذ يبدو كَمَنْ يريد أن يُدخِل في القصائد كلّ ما تراه عيناه وكلّ
ما قرأه وعاشه وخبره. تتشابك الإحالات مع الكتب، مع التاريخ، مع السفر، مع
الطبيعة، مع الروحانيّة، مع الجسد، مع الموسيقا، مع الحياة، ومع الموت في أسطر
قليلة لا تترك للقارئ فُسحةً لالتقاط أنفاسه. لا يغوص أويانغ في قلب الأشياء كما
اعتدنا من الشّعراء، بل يمسّ وجوهها مسًا رقيقًا، ولكنّه يترك بصمةً متفرّدةً تبدو
في أحيان كثيرة أعمق من بصمة من تأمّلوا ونبشوا وغاصوا واستقرّوا.
لا يمكن لي إحكام قبضتي على قصائد
أويانغ لسببين أساسيّين، بمعزل عن صعوبة قصائده: أولًا، لا أعرف الصينيّة، بل قرأت
«شيء اسمه حجر» بالعربيّة مع بضع قصائد أخرى بالإنكليزيّة؛ وثانيًا، الكتاب قصائد
مختارة قد لا تعبّر بالضّرورة عن عالم أويانغ كلّه. ولكن يمكن لي أن أستشعر ميلًا
واضحًا لديه إلى الصّمت، يصل أحيانًا إلى درجات «صارخة». أعني أن تجربة قراءة
القصائد (وإعادة قراءتها) تُحرّض في الذهن فكرةَ أنّ الأشياء تُجرَّد من أصواتها
حين تدخل إلى قصائده، ليصبح المشهد قريبًا من الأفلام الصامتة؛ وليس من قبيل
المصادفة ولع أويانغ بالثّلج وتساقطه، وبالخريف، وبسكون الليل، وبإغماض العينين.
ولا يعني هذا – بطبيعة
الحال – جمودًا
أو رتابةً، بل على العكس: تكتسب الأشياء معانٍ ودلالات جديدة حين تفقد أصواتها
وتتماهى مع الهدوء الذي يميّز نبرة أويانغ. ليس هدوء التأمّل «الكلاسيكيّ» المُفضي
إلى الروحانيّة بالضّرورة، بل أقرب إلى تأمّل العالم بعينَيْ فراشة تطير بخفوت وتُدرك
ما لا ندركه في ضجيجنا. أويانغ مُغرَمٌ بالإنصات لا بالبوح؛ بالنّظر لا بالنّطق؛
حيث يتوازى خلق الكلمات والآذان، وحيث يكون الهدوء الحُلُميّ أبهى صورةٍ من صور
العالم، وحيث تُرتَّب الأشياء في مرايا متقابلة: النّجوم والغيوم، الزّهور
والأعين، الضوء والنسيان، الورد واللهب، الخفوت والرِّقّة. هو عالم أحياء، عالم
حاضرٍ من حيث الجوهر، لا يكترث للماضي وللأسلاف ولا يكترث للخلود وللمستقبل. عالم
تحوّلاتٍ تنكمش فيه السرعة، والطيش، واللهاث، بحيث يستقر في نهاية واحدة هشّة
متدفّقة مخربشة، غير معنيّة بانضباط العالم الواقعيّ أو هندسته المنطقيّة.
ما الشِّعر؟ لعلّه أصعب سؤال على
الإطلاق. ولكن لعلّ الشِّعر يُعرَف بالشّعراء. ليس الشعر هو ما يُفهَم بالضّرورة
بل ما يُحَس. قصائد أويانغ جيانغ خي صعبة، وشاعرها يُدرك صعوبتها، ولا يطلب ولا
يريد من قارئها فهمها كليًا، بل يصرّ على وجوب إفراد فسحةٍ للغموض؛ إذ يقول في
قصيدة «جاء أدونيس» (وهي من أجمل القصائد المختارة إلى جانب «مَنْ يذهب ومَنْ
يبقى»، و«مصنع الزجاج»، و«أعبر الميدان ساعةَ الغروب»): «من فضلك تحدّث إلى شخصٍ
بعيدٍ بقَدْرٍ من لغةٍ غامضة». وكأنّ أويانغ يومئ إلى أنّ الغموض يتوازى مع
المسافة، وإلى أنّ المسافة ضروريّة كي تصل الرسالة، وكأنّما الشعر رسائل بين
الغرباء، وكأنّنا نقترب من المعرفة أكثر كلّما ابتعدنا من الكلمات الواضحة التي
اهترأت من فرط استخدامها. يقدّم أويانغ لنا في قصائده كلّ ما لا يُعرَف، بحيث يكون
هذا الجهل والضبابيّة جوهر بشريّتنا التي لا تكتمل إلا بالنّقصان. لسنا خالدين،
ولن نكون. إنّنا عابرون، «نسافر ولا نرحل» كما يؤكّد أويانغ. وربّما نقترب ممّا
يُعرَف حين ندرك ما لا يُعرَف، أو ربّما لا بدّ من سرٍّ ضبابيٍّ كي نكون بشرًا،
وكي نكون شعراء أو نُدرك الشِّعر.
0 comments:
Post a Comment