هل جرّبتَ إحساس الغرق في رواية؟
ستتلاحق الإجابات بأنْ «نعم».
وتتعدّد الأمثلة بتعدّد القرّاء وتنهمر علينا عناوين روايات ممتعة كثيرة. ولكنّ
«المتعة» ليست القصد هنا. إذ لعلّ الإمتاع أسهل غاية يمكن لأيّ كاتب متوسّط
الموهبة بلوغها، بل أتحدّث عن إحساس آخر، إحساس مختلف. إحساس أنّ الرواية تبتلعك كما
فعل الحوت بيونس، بحيث لا تعود مجرّد قارئ بل تصبح شريكاً متواطئاً في هذه الجريمة
اللذيذة. «جريمة» أن تقرأ وتعيش في عالمٍ اخترتَه واختارك. وبهذا المعنى لا تكون
رواية محمد خير «إفلات الأصابع» (دار «الكتب خان») رواية ممتعة، فهذا التّعريف
يفقدها كثيراً من جماليّتها، بل هي رواية مصيدة تمسك بتلابيب القارئ فلا يستطيع
فكاكاً حتى بعد انتهاء القراءة، بل لعلّ المصيدة هي أن تبقى متورّطاً بعد القراءة
تحديداً.
أظنّ أنّ هذا الإحساس مرتبط
بالقصة القصيرة أكثر من الرواية. فالقصة المتقَنة (نتحدّث عن القصة كجنس أدبيّ
مستقل، لا عن «استراحة» للروائيّين) تسكن ذاكرتك وروحك بطريقة تعجز عنها معظم
الروايات. ومن تجربتي الشخصيّة، لم تكن تلك الروايات الاستثناء إلا روايات منطلقة
من عالم القصة، و«إفلات الأصابع» إحدى تلك الروايات. إنْ كانت القصة سهماً يصيب
هدفه بدقّة أو يعود إلى حالته الأصليّة عوداً خشبياً جديراً بالإهمال، فإنّ
الرواية المنطلقة من عالم القصة أشبه بجعبة سهام مُصوَّبة إلى هدف واحد. البراعة
هنا هي أن تجعلها تصيب الهدف نفسه بدقّة متناهية: ضياع سهم واحد كضياع السّهام
كلّها، كلّ شيء أو لا شيء. هذا هو المحكّ: إما أن تكون رواية أو مجموعة أعواد
خشبيّة طائشة. وقد نجح محمد خير في هذا الاختبار بقوّة، حين قدّم لنا إحدى أجمل
الروايات العربيّة وأعذبها، في العقد الأخير على الأقل.
لا حدّوتة في هذه الرواية،
فالرواية نفسها هي الحدّوتة. بالأحرى، عيش مجموعة الحواديت المتشظّية هو الحدّوتة.
فرواية «إفلات الأصابع» ليست معنيّة بالحدث، أيّ حدث. إذ نكون معظم الأحيان بعد
وقوع الحدث، بحيث نتلمّس آثاره ونحلم به، أو نحاول تخيّله. والخيال لدى محمد خير
مرتبط بالأحلام دوماً، بحيث لا ندرك المكان أو الزمان بدقّة برغم الإيحاءات، وإنْ
كانت أطياف الماضي مخيّمة دوماً، فتمسي الأزمنة كلّها زمناً ماضياً مستعاداً.
ولكنّ الماضي هنا ليس التاريخ، بقدر ما هو تجربة فرديّة، حتّى حين يكون الحدث
المنقضي حدثاً جمعياً. تاريخ قرية وهدة ليس إلا تجربة لأحد سكّانها؛ مدينة
العلايلي المتكثّفة في بناية واحدة ما هي إلا تجربة أحد قاطنيها، أكانت تجربة
شيرين أم سلام أم حسام أم أيّ طبيب من الأطبّاء؛ وتكاد الرواية كلّها تكون تجربة
فرديّة لشخصيّة بحر، أو حتّى لنظّارته، أو ربّما هي تجربة سيف كما عرف بحر، أو هي
تجربة علياء كما أثّرت على سيف، أو هي تجربة علياء حين صارت ليلى. على الأغلب لن
يفهم قارئ هذه السطور شيئاً، ولكن هذه هي الحال فعلاً. فكما أنّك لا تلجأ إلى
المراجعة لتفهم العمل الأدبيّ (وإنْ باتت المراجعات هذه الأيام محض ملخّصات للأعمال)،
كذلك لا تلجأ إلى الملخّص لتتعرّف إلى العمل. لا معنى للعمل الأدبيّ من دون قراءته
وإعادة قراءته، وهنا تحديداً كانت المصيدة الجميلة التي نصبها لنا محمد خير. رواية
عصيّة على التلخيص، رواية لا تنكشف بانكشاف أحد خيوطها، رواية لا تتكشّف بالمطلق
بصرف النظر عن مرات قراءتها، رواية تلتصق بك حتّى لو أفلتت أصابعك منها.
يُطرَح علينا دوماً سؤالان في
عمليّة قراءة العمل الأدبيّ: كيف نقرأ ولماذا نقرأ؟ كيف نقرأ «إفلات الأصابع»؟ تريد
الطريقة التقليديّة من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة؟ حظاً سعيداً و«ابقى
قابلني». هل نقرأ فصولاً متفرّقة عشوائيّة؟ ممكن، فكلّ فصل له عنوانه وحدّوتته.
ستقرأ قصصاً قصيرة جميلة وإن كانت موشومةً دوماً بنقص لا يكتمل إلا بقراءة فصول
أخرى. طيب، هل نجرّب ملاحقة شخصيّة أساسيّة في هذه المتاهة؟ مرحباً بك في عالم
محمد خير حيث لا توجد شخصيّات أساسيّة أو ثانويّة. تريد أن تجرّب شخصيّة بحر فقط
لأنّها الأكثر تواجداً؟ سيبتسم الكاتب بخبث ويتركك تجرّب، فتجد أنّ ثقتك المفرطة
ستتفتّت مع مواصلة القراءة، إذ سيقودك بحر في طرق متعرّجة تنتهي بطرق متعرّجة أخرى
وهكذا وصولاً (أو رجوعاً؟) إلى البداية. ولكنّك قلت إنّ الرواية منطلقة من القصص.
صحيح، ولكن لا ينبغي لك أن تصدّق كلّ ما يقال.
لماذا ينبغي لنا أن نقرأ «إفلات
الأصابع» إذن؟ السؤال الحقيقيّ: «لماذا نقرأ بالمطلق؟» نقرأ كي نتسلّى، أو كي
نتعرّف إلى عوالم أخرى، أو كي نستمتع بالكتابة الجميلة، أو كي نهرب من الواقع، أو
كي نتوه في «واقع» آخر. كلّ هذا صحيح، وكلّ هذا موجود لدى محمد خير. أمامنا رواية
نادرة لحسن الحظ ولسوئه. رواية مشغولة بأناة وبراعة، رواية تسبِّب الإدمان، مثل
لحن لا نشاز فيه، يتسلّل داخلك فيمسي قطعةً منك وكأنّه أُلِّف لك وحدك. هل جرّبتَ
إحساس الغرق في رواية؟ لا؟ اقرأ «إفلات الأصابع». نعم؟ أحببتَ الإحساس؟ اقرأ
«إفلات الأصابع». لم يعجبك الإحساس؟ إذن، هذا الرواية ليست لك.
نُشرت في جريدة الأخبار - 29 أيار/مايو 2019
0 comments:
Post a Comment