النص أدناه، هو النص المُحقَّق للمقامة ولكن من دون تفصيلات قد لا يحتاجها القارئ العاديّ الذي يهمّه نص المقامة فقط. أما بالنّسبة إلى من يريد تفصيلات النص المحقَّق كلّها من فروق بين المخطوطات، وحواشٍ تفسيريّة، فسيجد نسخة للتّحميل على هذا الرابط.
المقامة الأولى
[البصريّة]
حدَّثَنا عيسى بن هشامٍ قال:
دخلتُ البصرةَ وأنا من سِنّي في فَتاءٍ، ومن الزِّيِّ في حِبَرٍ ووِشاءٍ، ومن
الغنى في بقرٍ وشاءٍ. فأتيتُ المِربَد مع رفقةٍ تأخذهم العيونُ، وتَحارُ فيهم
الظُّنون. ومِسْنا غير بعيدٍ إلى بعض تلك المُتنَزَّهاتِ، في تلك المُتَوَجَّهات.
ومَلَكَتْنا أرضٌ فحَلَلْناها، وعمدنا لقِداحِ اللهوِ فأَجَلْناها، مُطَّرحين
للحشمةِ، إذْ لم يكن فينا إلا منّا. فما كان بأسرعَ من ارتدادِ الطَّرْفِ، إذْ
عَنَّ لنا سوادٌ، تَخْفِضُه وِهادٌ، وترفعه نِجادٌ. وعَلِمنا أنّه يَهُمُّ بنا،
فأَتْلَعْنا له، حتى أدّاهُ إلينا سيرُه. ولَقِيَنا بتحيّة الإسلام، وردَدْنا عليه
مُقْتَضى السَّلام. ثمّ أَجالَ فينا طَرْفَهُ وقال: يا قوم ما منكم إلا مَنْ
يَلْحَظُني شَزْرًا، ويُوسِعُني خَزْرًا. وما يُنْبِئُكم عنّي أصدقَ منّي. أنا
رجلٌ من أهل الإسكندريّة، من الثُّغور الأمويّة. وقد وطَأَ لي الفضلُ، ورَحُبَ بي
عيشٌ. ونَماني بيتٌ جَعْجَعَ بي الدّهرُ عن ثُمِّهِ ورُمِّهِ، وأَتْلاني زغاليلَ
حُمْرِ الحَواصل.
كأنّهُم حَيَّـاتُ أرضٍ مَحْلَةٍ
|
فلو يَعَضُّـون لَذّكَّى
ســمُّهُمْ
|
|
إذا نَزَلنا أرسلوني كاسـبًا
|
وإنْ رَحَلْــنا رَكِـبـوني
كُلُّهُمْ
|
ونَشَزَتْ علينا البِيْضُ،
وشَمَسَتْ بنا الصُّفْرُ، وأكَلَتْنا السُّودُ، وحطَمَتْنا الحُمْرُ. وانتابَنا
أبو مالكٍ، فما يلقانا جابرٌ إلا عن عُقر. وهذه البَصْرةُ، واديها من البَصْرة.
ماؤُها هاضومٌ، وفقيرُها مهضومٌ. والمرءُ مِنْ ضرسه في شُغُلٍ، ومن نَفْسِهِ في
كَلٍّ. فكيف بمَنْ:
يُطَوِّفُ ما يُطَوِّفُ ثُـمَّ
يأوي
|
إلـى زُغْـــبٍ مُخَرَّزة
العيونِ
|
|
كَسَاهُنَّ البِلى شُعْثًا
فتُمْسي
|
جِياعَ النَّابِ ضامرةَ
البُطونِ
|
فلقد أصبحنَ اليومَ، وسَرَّحْنَ
الطَّرْفَ منّي في حيٍّ كَمَيْتٍ، وفي بَيْتٍ بلا بِيْتٍ، وقَلَّبْنَ الأكُفَّ على
ليتٍ. فَفَضَضْنَ عِقْدَ الدُّموعِ، وأَفَضْنَ ماءَ الضُّلوعِ، وتداعَيْنَ باسمِ
الجوع.
والفقـرُ في زمنِ اللِّئا
|
مِ لـكلِّ ذي كَرَمٍ علامــهْ
|
|
مالَ الزَّمانُ إلى اللِّئـا
|
مِ وذاك أشراطُ القيامـــهْ
|
ولقد اجتزْتُ بكم أيّها السادةُ، [فدلَّتْني
عليكم السّعادةُ]. وقالت: قَسَمًا، إنّ فيهم لَدَسَمًا. فهل مِنْ فتًى
يُغَشِّيْهِنَّ أو يُعشِّيهنّ، أم هل من حُرٍّ يُرَدّيهِنَّ أو يُغَذِّيْهِنَّ.
قال عيسى بن هشامٍ: فوالله ما استأذنَ على حِجابِ سَمْعي كلامٌ أبرعُ ممّا سمعتُ.
لا جَرَمَ إنّا اسْتَمَحْنا الأوساطَ، ونَفَضْنا الأكمامَ، وبحثنا الجيوبَ.
ونُلْتُهُ مُطْرَفي، وأخَذَت الجماعةُ إِخْذي. وقلنا له الْحَقْ بأطفالكَ.
فأعْرَضَ عنّا بعدَ شُكْرٍ وَفّاهُ، ونَشْرٍ ملأَ به فاهُ.
تفسير ما في المقامة
يُقال: فلانٌ في فَتاءٍ من سنّه
إذا كان في ريعانه، أُخذ ذلك من «الفتى». والوِشاء جمع وَشْي. والمِربد موضعٌ
بالبصرة. ومعنى قوله: تأخذهم العيون، يعني أنّهم ظرافٌ نِظافٌ. ومعنى قوله: مِسْنا
غير بعيد، المَيْس التَّبَخْتُر. وقوله: عنَّ لنا سواد، معناه ظهر لنا شخص. قال
النبيّ r: «إذا لقيتَ باللّيلِ سوادًا فلا تكنْ أَجْبَنَ السّوادَيْن».
ومعنى قوله: تخفضه وهاد وترفعه نجاد: جمع وَهْد ونَجْد، وهو المنخفض من الأرض
والمرتفع منها. ومعنى قوله: فأتلعنا له، أي مَدَدْنا أعناقنا [إليه]. قال الأعشى:
يَوْمَ أَبْدَتْ لنا قُتَيْلَةُ
عَنْ جِيْـ ـدٍ تَليعٍ
تَزِيْنُهُ الأطواقُ
وقال آخر:
ذَكَرْتُكِ لمّا أَتْلَعَتْ من
كِناسِها وذِكْرُكِ سَبَّاتٍ
إليَّ عجيبُ
وقوله: وقد وطأ لي الفضل، معناه
مكاني من الفضل وطيء. وقوله: جعجع بي الدّهر عن ثمّه ورمّه، أي أزعجني وحَبَسني في
موضع سوء، والثمّ والرمّ الخير. كتب ابن زياد إلى [ابن] سعد: أنْ جَعْجِعْ بحسينٍ
وأصحابه. وقوله: أتلاني زغاليل، أي أتبَعَني أطفالًا صغارًا. وقوله: حُمر الحواصل،
فإنّه شبّههم بفِراخ القطا قبل أن ينبت شعرها. قال الحطيئة:
لِزُغْبٍ كأولادِ القَطا سِرْنَ
خَلْفَها على عاجزاتِ الطَّرْفِ
حُمْرٍ حواصِلُهْ
وقوله: نشزت علينا البِيْض، فإنّه
يريد الدراهم. وشمست بنا الصُّفْر، أي الدنانير. وأكلتنا السُّود، أي الليالي.
وحطمتنا الحُمْر، أي الدّواهي. وانتابنا أبو مالك، أي الجوع. [يقول قائلهم:]
أبو مالكٍ يَعْتادُنا في
الظّهائر يزور فيُلقي رَحْلَهُ
عند جابرِ
وجابر ابن حَبّة هو الخبز. ويقال:
لقيته عن عُقْرٍ، أي عن فترة. وقوله: واديها من البصرة، أي الحجارة. قال الشاعر:
تداعَيْن باسم الشّيبِ في
المُتَثَلَّم جوانِبُهُ من
بَصْرَةٍ وسِلامِ
وقوله: في بيت بلا بِيْت، فمعناه
بلا قوت. [قال الشاعر]:
أصبحْتُ في البيتِ بلا بِيْت
|
أقلّــبُ الكـفَّ على لَيْــــت
|
|
وصاحبُ البيتِ يريد الكِرا
|
وليس في البيتِ سوى البَيْت
|
وأما قوله:
والفقرُ في زمنِ اللئا مِ لكلِّ ذي كَرَمٍ علامهْ
فمن أبياتٍ أنشدها أبو الحسين
أحمد بن فارس [رحمه الله]. وأوّلها:
أين اللّفـائف يا سلامَهْ
|
دامَتْ لمـــولاكَ الكرامَهْ
|
|
فلقدْ طوَيْتُ وقد طوى
|
غيري وبعـتُ له لجــامَهْ
|
|
بادِرْ بـــه لمُجَــــــوَّعٍ
|
مِنْ قَبْلِ أن يلقى حِمــامَهْ
|
|
وغدًا أُصرِّفُ سَــرْجَهُ
|
وأبيــعُ بعدَ غدٍ حِــزامَهْ
|
|
والفقرُ في زمنِ اللِّئـــا
|
مِ لكلِّ ذي كَـرَمٍ عـلامَهْ
|
|
مالَ الزّمانُ إلى اللِّئـــا
|
وذاك أشراطُ القيــــامَهْ
|
|
لا تُعْجِبَنْكَ عمـامتي
|
فالفقرُ مِنْ تحتِ العمامَهْ
|
وأما
قوله: إنّ فيهم لَدَسَمًا، فإنّه يريد دَسَم اليد لا دسم البطن. وأنشدنا أبو
الحسين لبراكويه التلوليّ الزّنجانيّ:
قالوا امْتَدِحْ دَيْسَمَ
الشّاري فقلتُ لهم
|
والله والله ما في ديْسَمٍ
دَسَــــمُ
|
وأما قوله: فاستمحنا الأوساط،
فمعناه حَلَلْنا من أوساطنا ما كان عليها.
0 comments:
Post a Comment