ما المقدمة التي يمكن أن تليق بشاعر
كان اختزالاً لقرنين كاملين؟ انقضى القرن الأول بكل صخبه وثوراته وتداخل هويّاته
وثوراته الشعرية، وبدأ القرن الثاني باضطراباته وتمرّداته، ولكنْ ثباته الشعريّ.
عاش سعيد عقل بين قرنين متباينين، ورحل ليتركنا حائرين أمام شخصيته الإشكالية التي
كانت مرآة لما بقي مشتركاً من هذين القرنين: بهاء الشعر، ووحل السياسة وجحيم أزليّ
من الحرب. تساءل عبد الرحمن منيف يوماً عمّا إذا كانت السياسة قد ربحت إميل حبيبي،
بعد أن خسره الأدب. يصدق هذا التساؤل الدقيق على سعيد عقل بالذات. الفارق هو أنّ
منتقدي عنصريّة ويمينيّة عقل تشبّثوا بالجانب السياسي العابر عنده، وتغاضوا عن
جوهره الفعليّ، أي الشعر.
لم يكن عقل أول شاعر تُحرقه السياسة،
ولن يكون الأخير، ولكنّه لم يطرح نفسه سياسياً، بل شاعراً. لمَ نقبل «التفكير الشعري
في السياسة» - على حد تعبير ممدوح عدوان - عند غيره، ونقف مطوّلاً عنده؟ هل لأنّ
عنصريته كانت موجّهة إلى الفلسطينيين؟ هل كان تلقّي العنصرية سيختلف لو كان هو
شاعر مقاومة وعنصرياً ضد اليهود مثلاً؟ بالطبع، لا يمكن إغفال الجانب العنصريّ
والشوفينيّ لديه، ولكن ألا يُغفر له كونه عاش زمن الحرب الأهلية اللبنانية بكل
قذارتها؟ بل، ألا يُغفر له أنه عاش حياة ملأى بالحروب، ابتداء بالحرب العالمية
الأولى وصولاً إلى آخر اعتداءات إسرائيل والحروب الأهليّة العربية الصغيرة؟ في
الحرب، أية حرب، يربح السياسيون وأمراء الحروب، ويخسر الجميع، أكانوا عنصريين أم
مقاومين أم وطنيين؛ في الحرب يجنّ الجميع. في الحرب اللبنانية خسر اللبنانيون
والفلسطينيون والسوريون وبقي أمراء الحرب مكرّسين على عروشهم التي دعمتها إرادة
دولية وتوافق أهليّ. لا يمكن لأحد تناسي التصريحات الشهيرة لعقل عام 1982، ولكن،
عند مراجعة جميع المواقف التي تلت ذلك العام الفاصل، هل كان من تبقّى من الشعراء
والسياسيين أفضل منه، أو أقل سوءاً؟ في حالة سعيد عقل، بقي الشعر، ولكن في حالة
عنصريي الأمس، ثوريي اليوم، لمّ يتبقّ شيء، بل باتوا هم كلّ شيء.
لنبق في الشعر إذاً، ولننس السياسة. لن
تروق هذه الجملة لمناصري تلازم الفنيّ والسياسيّ بكل تأكيد، ولكن لنحاول ذلك،
ولنسقط السياسة عن الجميع، من دون أن ندخل في مفاضلة تحديد الأسوأ: العنصريّ
الصريح، أم الوطني الزائف. فلننس السياسة، حتى في تجلّياتها الأخيرة حين صار شعر
سعيد عقل نفسه، أداة للتجاذب السياسي بين الأطراف السورية المتصارعة. ولنتحدث عن
الشاعر الذي خلّد الصورة البهيّة للشام في ظل أسوأ أنظمة مرت على تاريخها. هذا ما
يتبقى فعلياً من سعيد عقل؛ الشعر فحسب.
ما الذي يجعل للسيف تلك الدلالات
المحبّبة لو لم يكن في شعر عقل، وما الذي يجعل لبردى عظمته لو لم تكن نسماته ابنة
لقصيدة عقل؟ كتب جميع الشعراء ربما عن السيف، ولكنّ عبقريّة سعيد عقل نقلته من
كونه أداة للحرب لكي يكون تفصيلاً آخر، لا يقل ألقاً عن خاتم الذهب، أو المشوار،
أو الحلم، في عالمه الشعري. كلّ من يعرف بردى، بعد تحوّله إلى ساقية آسنة، سيتذكّر
نسمة بردى بسخرية، ولكنّه سيتناسى المشهد الساخر مباشرة ليقع في غرام قصيدة «مُرّ
بي» للمرة الألف، ويبدأ تخيّل بردى-الحلم الخاص به. هذه النقطة بالذات هي التي
تجعل سعيد عقل متفرّداً. قلّة هم الشعراء الذين نقع في غرام قصائدهم بعد كل قراءة
جديدة، وسعيد عقل كان أحدهم، إن لم يكن أهمّهم. هو أهمّهم لأننا لا نستطيع غربلة
سطر واحد من قصائده؛ ولد الشعراء على دفعات، بينما ولد سعيد عقل شاعراً منذ قصائده
الأولى. اللافت في سعيد عقل بأنه أضاف مجداً آخر في الشعر المحكيّ، بل كان ذلك
الشعر بالذات مصدر قوّته وعظمته. ربما كانت روعة شآميات عقل، وشعره الفصيح بالعموم،
هي أنها كانت استراحات عابرة بين جنّة الشعر المحكيّ، ولذا تسلّلت إليها ألوهيّة
المحكيّ، ببساطته وعمقه وعطره. إن كان ثمة سمة غرائبية وفريدة، في آن، لشعر عقل هي
أنه يبدو كالعطر بغموضه وعمقه وأثره في الروح. الروحانية بمعناها الشفيف تغلّف شعر
عقل بأسره، بحيث كان ربما الشاعر الوحيد الذي تحسّ أنّ الجسد لديه أداة عابرة نحو
الروح، من دون أن يفقد معناه الحسيّ المغوي.
انطلاقاً من حضور المرأة/الشام عند
عقل، سندخل إلى عالم متفرد في شعره. بقيت المرأة، أكانت حقيقية أو مجازية، بكامل
براءتها وإغوائها، كالأيقونات. وكذلك بقيت الشام عنده، بصرف النظر عن «واقعها»
وحكّامها ورجالها. كانت الشام أماً وابنة وعشيقة لعقل، وتخصّه وحده، ولذا باتت
تشكّل عند كل قارئ للشآميات، وعند كل سوريّ، تجلّياً متفرداً لشامه التي يحب، أو
يكره حتى. الشعر هو ما يحضر ويبقى، أما السياسة عابرة. هذا ما ميّز سعيد عقل
شعرياً: أن تكون شاعراً عربياً ينسف السياسة بالشعر يعني أن تكون مميّزاً
بالضرورة. ربما كان نوعاً من الإيهام، ولكن من قال إنّ الشعر والحلم ليسا إيهاماً
أساساً؟ «ان صحّ الحلم، شو صار؟»
كانت السياسة حجر عثرة في حياة سعيد عقل الممتدة مسافة قرنين؛ حجر كبير ومرهق له ولنا ربما، ولكنه مجرد حجر. هذا ما تحاول قصائده القول لنا، بالفصحى والمحكية، بشامها ولبنانها ومكّتها وصليبها وفيروزها. سيبقى لكلّ منا اعتراضاته وكرهه لخطايا عقل. ولكن، لنتوقف لحظة للتفكير: أيمكن لمن كتب كل تلك القصائد أن يهدّد فعلياً بـ «قص راس» معارضيه؟ قاطعو الرؤوس حاضرون بكثافة اليوم، وشعر سعيد عقل حاضر أبداً. المهم هو من يبقى لا من يعبر. «قال علّمتني حلوة الحلوين/ ان فلّيت اترك عطر بهالكون».
نُشرت في جريدة «الأخبار» اللبنانيّة 29/11/2014