شكّلت رواية أحمد مراد «الفيل
الأزرق» (2012) مفاجأةً حين وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة «بوكر العربيّة» عام
2014. كانت الرواية (وما تزال) أجرأ خيار لمحكّمي الجائزة وللقائمين عليها.
فالرواية تنتمي إلى الأدب غير المعترف به في «جنّة» الجوائز والنّقد الأكاديميّ:
رواية «بست سيلر» من «أدب الجانْر» الموجَّه إلى شرائح قرّاء محدَّدة لهم بوصلتهم
الخاصة التي لا تتقاطع مع بوصلة الأدب السائد إلا نادراً. ولكنّ الرواية محض خيار
جريء لا أكثر، إذ لا تمثّل أهميّة كبرى حتّى ضمن تيّار أدب الجانر العربيّ، بالرغم
من انتشارها الهائل الذي جعل من كاتبها أحد أشهر الروائيّين المصريّين، بل العرب
بالمطلق الآن. ولكنْ يبدو أنّ مراد حاول طوال سنوات كسر الخانة التي حبسته فيها
الرواية، ومضى يشقّ طريقه في مسار روائيّ آخر، أصدر فيه ثلاث روايات، وصولاً إلى
روايته الجديدة «لوكاندة بير الوطاويط» التي صدرت أخيراً عن دار الشروق.
أثارت الرواية الجديدة جدلاً آخر
مختلفاً هذه المرة حين قُرصنت إلكترونياً لتثير عاصفة بشأن حقوق الملكيّة
الفكريّة، وعاصفة أقل تتّصل بردود الأفعال التي حظيت بها الرواية، من النسف التام
لكونها رواية «بست سيلر مراديّة أخرى»، إلى الحماس المبالغ فيه من قرّاء مراد
المخلصين، وهم شريحة كبيرة لا يمكن لنا تجاهلها بحال من الأحوال. لستُ من المتابعين
الدؤوبين لتجربة مراد الروائيّة، ولذا شكّلتْ روايته الجديدة مفاجأة صاعقة
بالنّسبة إليّ إذ ما من مجال للمقارنة بينها وبين «الفيل الأزرق». بل لا ميالغة لو
قلنا إنّهما تبدوان لكاتبيْن مختلفَيْن للوهلة الأولى، لمصلحة الرواية الجديدة
بطبيعة الحال. رواية متقنة بدرجة كبيرة بدا فيها مراد أهدأ وأبرع في إدراكه
لأدواته وحدودها، وللكتابة في ذاتها، إذ تعامل معها بوصفها لعبة ممتعة لا حدود
لها، ممتعة لكاتبها قبل أن تكون ممتعة لغيره. بدا مراد محترفاً بدرجة عالية
بالمقارنة مع مراد الهاوي قبل ثماني سنوات. وحتّى لو تجاهلنا مقارنته بروايته تلك،
سنجد أنّ «لوكاندة بير الوطاويط» إحدى أجمل الروايات المصريّة الصادرة في السنوات
الأخيرة، ولا تكاد تنافسها إلا روايات تُحصى على أصابع اليد الواحدة. رواية تلعب
بالتاريخ وبالخيال وبالهذيانات وبالبارانويا وبالجنس وبالأزمنة وبالطبقات على
هواها، لتقدّم لنا شخصيّة سليمان أفندي السيوفيّ، مصوّر الموتى السّائر في درب
النبوّة والوحي؛ شخصيّة ستحفر مكاناً كبيراً لها بوصفها إحدى أجمل الشخصيّات
الروائيّة في مشهد روائيّ لا ينشغل برسم الشخصيّات ولا يكترث بصنعة الخلق في
الكتابة اكتراثاً كبيراً في ظل انشغال الروائيّين بصرعات الأدب التي تولد ميتة،
وبكتالوغات الكتابة بالمسطرة.
سليمان أفندي هو الرواية.
فاليوميات يومياته، والقاهرة قاهرته، والوحي وحيه، والنّساء نساؤه، واللغة لغته،
والموتى موتاه. وفي ظل هذا التّطابق التام بين الرواية وبين الراوي ستعتمد قراءتنا
للرواية على مدى تقبُّلنا لسليمان نفسه؛ إنْ أحببناه أحببنا الرواية، وإنْ نفرنا
منه نفرنا من الرواية، وإنْ أسأنا فهمه (وهذا هو الأخطر) سنسيء فهم الرواية. لنا
أن نقرأها قصةً بوليسيّةً تنوس بين الرعب والتّشويق، ولنا أن نقرأها دوامة
بارانويا رائعة، ولنا أن نقرأها رواية تاريخيّة تنطلق من «التاريخ البديل» وسؤاله
الأثير: «ماذا لو؟» ولا تنتهي به. غير أنّ كلّ قراءة من هذه القراءات ستمسي قراءة
قاصرة إنْ أفردناها من بين القراءات الأخرى. نقطة قوة الرواية ونقطة ضعفها في آن
هي أنّها مجموعة خيوط متشابكة تبدأ وتنتهي بسليمان السيوفي، وبطريقة تعامل مراد مع
سليمان، وبمدى إخفاء مراد لصنعة الكتابة بحيث يخرج من المشهد تماماً ويتركه لصاحبه
فقط. نجح مراد في هذا نجاحاً كبيراً، ولكنّه وقع في الفصول/اليوميات الأخيرة في فخ
فصل الخيوط المتشابكة، فركّز حيناً على الجرائم، وفَصَلَ حيناً بين سليمان وبين
وحيه، وأفرد حيناً آخر حيّزاً مبالغاً فيه للتفاصيل التاريخيّة، بحيث انتهت
الرواية بثلاثة خيوط منفردة باهتة، فيما كان يُفترَض أن تكون خيطاً ثلاثياً متضافراً
يتضاعف جماله بتضاعف تعقيده. ولكنّ اللغة المشغولة ببراعة بقيت العنصر الأجمل حتّى
بعد تفكُّك الخيوط، بل لنا أن نرى أنّ نقطة التّجريب الأكبر كانت اللغة التي تضبط
إيقاع السّرد الجنونيّ، وتبدو مرآة وبوصلة لتقلّبات سليمان الذي يبدو للوهلة
الأولى راوياً غير موثوق به، فيما هو في حقيقة الأمر أكبر من هذا. إنّه نبيُّ لغةٍ
في المقام الأول: يستنطق الموتى باللغة، ويقاوم الميلانخوليا باللغة، ويقارع عدوّه
الهجين باللغة، ويضاجع باللغة، ويقتل باللغة، ويعقل باللغة ويُجنّ باللغة. اللغة
لدى سليمان منبع خلق وكينونة قبل أن تكون وسيلة للكلام أو البوح أو الألم أو
استعادة أحداث الماضي.
نقرأ في قصة لكافكا بعنوان
«الحقيقة بشأن سانتشو بانثا» فكرةً مدهشةً، وهي أنّ كيخوته ليس إلا شيطان وحي
سانتشو الذي أطلق العنان لذلك الشيطان بإرادته ليعيش مغامراته. رواية كيخوته –
تبعاً لقراءة كافكا هنا –
تدور داخل ذهن سانتشو واقعاً وخيالاً، إنْ كان للواقع وللخيال معنى في دنيا
كيخوته. وكذا الأمر في «لوكاندة بير الوطاويط» (أو ما يُفترَض أن تكون عليه
الرواية ربما): جميع تفاصيل الرواية وخيوطها النبويّة والتاريخيّة والجنونيّة
والإيروتيكيّة دوّامةٌ من دوّامات ذهن سليمان السيوفي. لا واقع ولا خيال، لا تاريخ
ولا حاضر؛ بل لعلّنا نحن أيضاً تفاصيل ضمن خيالات سليمان المدهشة، خلقٌ آخر لهذا
النبيّ الذي اختزل العالم كلّه في غرفته الفوضويّة وفي ذهنه المرعب، بحيث بات كلّ
ما ومَنْ لا يوجد في ذهنه غير موجود، وكأنّه لم يكن، حتّى لو شهدتْ له أرقام وأحداث.
ثمة نبيٌّ شقَّ البحر، وأنبياء أحيوا الموتى، وأنبياء أسبغوا البركة في الطعام
والشراب، بينما نبوّة سليمان من جنس آخر: نبوّة ذهنيّة علقت في مرحلة الوحي ولم
تغادره؛ وحي جنونيّ تتداخل فيه الأزمنة والأمكنة، والموت والحياة، والدنيا والآخرة
في متاهة لغويّة آسرة. تلك هي «رسالة» سليمان أفندي السيوفي النبويّة في غرفته
الرثة، ويومياته المبعثرة الناقصة التي نقلتها لنا رواية «لوكاندة بير الوطاويط»
التي اختلف حولها القرّاء وسيختلفون. ليست محض هذيان كما رآها البعض إذ هي أبهى من
هذا بكثير؛ وليست «تحفة» كما رآها قرّاء متحمّسون، لا لعلّة فيها وحسب بل لأنّ هذا
الزمن ليس زمن تحف أدبيّة، أو على الأقل لا بدّ للتحفة من معالجة أبطأ وأهدأ
وأعمق؛ وهي ليست «منزلة بين المنزلتين» أيضاً. إنّها رواية جميلة معقّدة زلقة كفخّ
أزليّ؛ لا عجب أنّ خيوطها قد أفلتت حتّى من كاتبها في نهاية المطاف.